الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

عبيد خليفي: العنف الديني في تونس: من سفوح الجبال إلى شوارع المدن


في تحوّل نوعي ميداني للعمليات الجهاديّة في تونس، شهد قلب العاصمة التونسية عشية الثلاثاء 24 نوفمبر 2015 عملية تفجير لحافلة مخصّصة للأمن الرئاسي خلّفت 12 شهيدا و23 جريحا، فبعد الاغتيالات السياسيّة ثم استهداف الثكنات العسكريّة ورجال الأمن انطلاقا من الجبل في الشعباني وسمامة، جاءت عمليات المدن محصورة في ضرب أهداف سياحيّة (متحف، نزل)كان ضحيتها الأجانب باعتبارهم من "الكفّار"، وقد حافظت الجماعات المسلّحة مدة طويلة على هذا الخيار التكتيكي في عدم استهداف المدنيين، باعتبارهم الحاضنة الشعبيّة من حيث المدد والإمداد، غير أن تلك الولايات الحدوديّة، مثل سيدي بوزيد والقصرين التي كانت حاضنة شعبيّة للجماعات الجهاديّة نالت نصيبها من الخسائر البشريّة؛ لأن أغلب شهداء الأجهزة الأمنية والعسكريّة كانوا من أبناء تلك المناطق المهمّشة الذين لا حياة كريمة لهم دون الانتماء الوظيفي في أسلاك الأمن والجيش، وهو ما جعل تلك الحاضنة تتقلّص تدريجيّا مع انتعاشة ملحوظة للأجهزة الاستخباراتية والأمنية التي قطعت الصلة بين الجبل والمدن، وهو ما جعل جماعات الجبل تقوم بغزوات "الاحتطاب" لتأمين الغذاء والدواء في عدّة مناسبات.
تبدو عمليّة "شارع محمد الخامس" في وسط العاصمة التونسيّة تحوّلا خطيرا لمسار العمليات الجهاديّة؛ فقد جاءت هذه العمليّة بعد حوادث ذبح لرعاة مدنيين اتهمتهم التنظيمات الجهاديّة بالجاسوسيّة لفائدة الجيش التونسي، وهو ما تمّ نفيه مرارا، وفي عمليّة ترهيب صادمة نشرت تلك التنظيمات أشرطة فيديو تحتوي اعترافات المغدورين قبل إعدامهم، ويبدو أن عمليات ذبح المدنيين الرعاة كانت القطيعة النهائيّة بين الجماعات المسلحة والمدنيين التونسيين، ممّا زاد من سخط الرأي العام التونسي ضدّ هذه الجماعات، هذا الرأي العام لم يكن يرى في الجماعات المسلحة خطرا داهما ما دام في الجبل، كما أن الخلايا المعزولة في المدن لم تستهدف المدنيين مكتفية بقتل الأمنيين وتهديد السياسيين، وتأتي عملية تفجير الحافلة في وسط العاصمة ساعة الذروة تعبيرا عن بداية المواجهة المفتوحة بين الحركات الجهادية وكل التونسيين، ورغم أن الحافلة كانت مخصّصة لنقل أعوان الأمن الرئاسي، فإنّ خطورتها تكمن في كون العمليّة حدثت في شارع رئيس وسط العاصمة عادة ما يعج بالمدنيين في كل الأوقات، وهنا سيستوي خطر جماعات الجبل مع خلايا المدن، فكلاهما يمتلك عنصر المباغتة والقدرة على التخفّي والمراوغة..
من المستبعد أن يكون هناك تنسيق بين جماعات الجبل وخلايا المدن في الوقت الراهن، لكن المطلّع على الأدبيات التنظيمية للحركات الجهادية سيقف عند مفهوم الانتشار والتلاشي والمبادرة، فخلايا المدن في تونس تشكّلت زمن الدّعوة لتنظيم أنصار الشريعة بقيادة سيف الله بن حسين، والتحق أغلبهم بمعسكرات التدريب في ليبيا (درنة والعجيلات) لقضاء دورة تدريبيّة من 21 يوم، ويكون السفر والعودة دون جواز سفر بمساعدة المهرّبين، وكانت الخلايا قد استفادت من الانفلات الأمني لتحصيل مخازن الأسلحة والمتفجّرات، وبعد حضر تنظيم أنصار الشريعة في صيف 2013 انفصلت خلايا هذا التنظيم عن بعضها لتدخل مرحلة الكمون والتخفّي، وصار لكل خليّة مشروع انغماسي من حيث تحديد الهدف والتخطيط والتنفيذ، وقد راهنت هذه الخلايا على مفهوم "خرق أفق الانتظار" لتضرب في أماكن لا تتوقعها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وفي الزمان الذي تحدّده هذه الخلايا، وقد كانت "كتيبة عقبة بن نافع" قد أعطت الضوء الأخضر بعد عملية متحف باردو لكافة الخلايا بتنفيذ عمليات انغماسيه دون الرجوع للقيادة بالمشورة والتوجيه.
نعتقد أنّ مرحلة الجهاد الانغماسي التي تعيشها تونس اليوم تعبّر عن حقيقتين: الحقيقة الأولى تكمن في كون التنظيمات الجهادية في تونس عاجزة عن السيطرة على مجال جغرافي يسمح لها بالتنظّم في إمارة والتحرك والمواجهة لذلك تلجأ للعمليات الفرديّة الاستشهادية للإنهاك والإرباك انسجاما مع الأدبيات النظرية لأبي مصعب السوري وأبي بكر ناجي، والحقيقة الثانية أن الدولة التونسيّة مهما كانت نجاحات أجهزتها الأمنية فهي عاجزة عن منع هذه العمليات، وهو ما جعل تلك الخلايا تتجرّأ وتضرب في أماكن حساسة: في باردو على بعد أمتار من مجلس النواب وثكنة الجيش، وفي شارع محمد الخامس على بعد أمتار من مقر وزارة الدّاخلية ووزارة السياحة، ولن يكون أمام الحكومة التونسية العاجزة سوى الاكتفاء بردّة الفعل: حداد، مجلس أمني، إعلان حالة الطوارئ، والدّعوة إلى الوحدة الوطنيّة.. والفارق هذه المرّة أنّ الرئيس التونسي أعلن أن "تونس في حالة حرب مع الإرهاب".
ستبقى ردّة الفعل هذه نفسها تتكرّر بعد كل عملية إرهابيّة، خاصّة إذا تعلّق الأمر بحكومة شكّلها ائتلاف قوي العدد ضعيف العدّة، تحكمه محاصصة حزبيّة غير متوازنة (حزب آفاق ب8 نواب له 3 وزراء، حزب النهضة ب69 نائب له وزير واحد؟)، والحزب القاطرة "نداء تونس" يعيش صراعا داخليّا عطّل البلاد والعباد، وبحجة الوحدة الوطنيّة لمقاومة الإرهاب تُلجم أصوات النقد والاختلاف، فأن نعلن أنّ تونس في حالة حرب ضد الإرهاب فهذا يعني أنّنا نحتاج إلى حكومة حرب لها برنامج يحتوي على اقتصاد الحرب وثقافة الحرب وأسلحة الحرب، ضمن إستراتيجية وطنيّة شاملة، فالمعالجة الأمنيّة القضائيّة حل عاجل يخفّف من حجم الخسائر المباشرة، لكنّ هذه المعالجة لن تقتلع الإرهاب من جذوره ولن تحدّ من استمراره.
نحن نحتاج إلى قراءة كل أدبيات الحركات الجهادية ومشاريعهم الإستراتيجية لفهمها وتفكيك بنيتها العقائدية والتنظيمية، ومثل هذا العمل لا ينجزه سوى باحثون مختصّون في مجالاتهم المباشرة لموضوع الإرهاب: هو مشروع مقاوم يعالج المنظومة التعليميّة القائمة على التلقين الأجوف لتخريج مئات الآلاف من أصحاب الشواهد المعطلين عن العمل (عددهم 800 ألف)، والذين صاروا مخزونا بشريّا للتنظيمات الجهادية القادرة على استقطابهم بمحادثة بسيطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في السجون والمساجد، وبالقياس لشباب المدن وظّفت الحركات الجهادية غياب الدولة في المناطق الحزامية للجبال من التنمية والتشغيل والبنية الأساسية ترهيبا وترغيبا فصاروا أنصارا تحت وطأة الحاجة والفقر  والحرمان، وما بين الضغط الأمني والذبح الجهادي حول جبل "المغيلة" بسيدي بوزيد صار خيار التهجير بدل التعمير، هذا المخزون البشري مرتبط بالمخزون المالي الذي ربط علاقة وثيقة بالتهريب والمهرّبين ورجال الأعمال الفاسدين، فالدولة التونسيّة عاجزة عن مقاومة التهريب الذي يمثّل نسبة 52% من الاقتصاد التونسي، والقضاء على التهريب يمنح خزينة الدولة عائدات قد تساهم في العدالة الاجتماعية والتنمية، كما تساهم في تجفيف مصادر تمويل الجماعات الجهادية.
يقدّر عدد الذين تبنّوا العقيدة الجهاديّة في تونس بأكثر من 10 آلاف شاب، وأما عدد الذين التحقوا بمناطق النّزاع فيتراوح عددهم بين 2500و3000 شاب، منهم من قضى نحبه ومنهم من عاد أو سيعود، وفي سبر أراء أخير لمنظمة "أنا يقظ" حول الانتخابات البلديّة أعلن 60% من الشباب نيتهم مقاطعتهم للانتخابات البلديّة، يضاف إلى ذلك أنّ 82% من الشباب غبر منخرطين في أي نشاط سياسي.. هذه الأرقام تثير الفزع لواقع الشباب التونسي الذي دشّن أولى الثورات العربيّة ليصبح وقودا للتيارات الجهاديّة في حروب إقليميّة ومغامرات داخليّة جعلت التجربة الديمقراطية في تونس تعيش تحت رحمة ضربات الحركات الجهاديّة.

المصدر: صحيفة ذوات لمركز مؤسسة مؤمنون بلا حدود بتاريخ 27 نوفمبر 2015
الرابط: http://thewhatnews.net/

هناك تعليق واحد: