نزيف المجتمع المدني التونسي
بقلم عبيد خليفي
تابعت في الايّام الأخيرة الأزمة التي تمرّ بها جمعية النساء الديمقراطيات، بعد الحجز على أرصدتها البنكيّة وتجميدها في تحدّ صارخ للدستور والمواثيق الدولية التي تمنـح الجمعيات الغير حكوميّة حصانة تكاد تكون مطلقة، ثمّ محاصرة المقر من طرف البوليس السياسي وممارسة أساليب العصور الوسطى في التعدّي على الحريّات والأشخاص، إنّ مثل هذا التعاطي للسلطة مع جمعيّة النساء الديمقراطيات لم يثر استغرابي، ولا يبدو شاذّا أو نادرا بقدر ما يتنزّل في سياق عام تعيشه البلاد منذ أكثر من عقدين جعل مفهوم المجتمع المدني يعيش نزيفا مستمرّا وانتكاسات مدوّية جعلت من المجتمع التونسي في حالة من الإحباط والتشاؤم.
هذا يقودنا إلى استعراض شامل لمختلف الأزمات التي تعيشها مكوّنات المجتمع المدني في تونس وهي تواجه حربا يومية من طرف السلطة لما يوصّف حالة من الميوعة السياسية والترف الفكري في ظل الوضع المتشضّي للمعارضة الوطنية لأمراض تكاد تكون مستعصية، لنستعرض انتكاساتنا التي استنزفتنا جرحا لم يندمل.
أولى المشاهد هذا الوضع المزري الذي آلت إليه جامعتنا التونسيّة في غياب ممثلها الشرعي والتاريخي الإتحاد العام لطلبة تونس وقد أضحى هيكلا ميّتا بعد حرب ضروس خاضتها السلطة مع مناضليه لتجميد أنشطته ومنعه من عقد مؤتمره الخامس والعشرون متعلّلة بالانقسام الداخلي بين مناضليه، وكأنّ سلطة الإشراف بريئة تماما ممّا أصاب هذه المنظمة العريقة التي أنتجت معظم الرموز السياسيّة في البلاد سواء في صفوف المعارضة أو حتى في صلب مؤسسات الحكم في تونس، والأسماء هنا تضيق عن ذكر مشاربها وانتماءاتها وانتكاساتها،
فالمنظّمة الطلابيّة هي المدرسة الأولى في تونس لتكوين الشباب الذي سيكون رافدا لمكوّنات المجتمع المدني والأحزاب السيّاسية، هناك في الساحة الحمراء في 9أفريل وعند صخرة سقراط تحصّل سياسيو اليوم على شهادة الأهليّة السياسيّة لينصّبوا أنفسهم علينا منظّرين وأبواق دعاية فجّة، ويبدو سياسة تجفيف الينابيع التي انتهجتها السلطة قـد تحوّلت من سياق الحركات الإسلامية نحو سياق المجتمع المدني، لتنتج الجامعة شبابا ميكانيكيّا ليست له مرجعيّة فكريّة أو سياسيّة، ويصبح المفهوم الإيديولوجي مسبارا للضياع الشبابي والانحراف المستقبلي وتخريج دفعات العاطلين عن العمل.
ولست هنا من يقدّم فرجـا لهذا المأزق بقدر ما أحاول أن أوصّف واقعا معيشا، صحيح أنّ التيّارات السياسيّة داخل الجامعة تتحمّل بعضا من الوزر لهذه الحالة المرضية وهذا الانقسام، لكنّ المتمعّن في تاريخ الحركة الطلابيّة يلاحظ أنّ المشهد السياسي في الجامعة كان طوال عقود متميّزا بهذا الاختلاف الذي في لحظات التشنّج يصبح صراعا عنيفا من أجل الاكتساح والسيطرة، وما كان ليدان هذا الفعل السياسي بكل سلبياته وانحرافاته على اعتبار أنه دخل في نمطيّة الحياة الجامعيّة، واليوم نجد أنفسنا نتحسّر على هذه المنظّمة الطلابيّة التي غدت تاريخا مجيدا وحاضرا موجعا لما آل اليه وضعها التنظيمي محرومة من أبسط حقوقها في عقد مؤتمرها.
ويزداد بؤسنا ونحن نرى المشهد الطلابي يغرق في ظلمته نتيجة إغراق السلطة في التعامل الأمني القمعي مع كل محاولة لعودة الحياة والنشاط للفضاء الجامعي، فتطـرد الطلبة من مقاعد الدراسة وتحصيل العلم وتزجّ بهم في الزّنازين والسجون في مشهد سريالي لم يعد موجودا في أعتى الملكيات قمعا وبطشا، وغدا المطلب الطلابي والوطني عموما ليس في عقد مؤتمر الاتحاد ولكن في المطالبة بالإفراج عن الطلبة المساجين، وهو مشهد خزي ووصمة عار في جبين البلاد، ومن المعيب هذا الصمت المخزي على الساحة الوطنية أمام هذه الكارثة التي سنخجل من تاريخنا وهو يكتبها ويدوّنها.
في مسلسل القضاء على شريان المجتمع الجمعياتي كانت "أزمة" الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، رغم أنّ مصطلح أزمة ليس في محلّه لأنّ المأزق ليس من الدّاخل كما قد نتصوّر ونكتب، ولكنّ التوصيف الصحيح هو الهجمة التي تتعرّض لها الرابطة من طرف السلطة خلال عشريّة كاملة أرغمت فيها على عدم عقد مؤتمرها السادس في مناخ ديمقراطي، ولسنا هنا نتحدّث عن جمعيّة مائيّة أو جمعيّة ترابية تقع في مخزن البلاد، وإنما نتحدّث عن عميدة الجمعيات الحقوقيّة في العالم العربي والإفريقي، ومن البؤس أن تجد نفسها محاصرة ممنوعة، ومنهوبة المقرّ، مطاردة المناضلين.
وعندما تكشّف للملاحظين المحلّيين والدوليين أنّ المأزق تسبّبت فيه السلطة ليتجه الضغط إليها سارعت السلطة إلى فرقعة إعلاميّة بالدّعوة للحوار تحت عنوان المبادرة بالمبادرة التي لم يكن لها من غاية سوى ربح الوقت والمناورة أمام الرأي العام والدولي، ووجد الرّابطيون والهيئة المديرة أنفسهم في سلسلة من الانتظار المخيّب وبعض التنازلات التي جعلت منها السلطة حجّة وبرهانا أمام الرأي العام الوطني والدولي على أنّ الحوار سيّد الموقف، وهو سياق عام لترحيل الأزمة نحو المستقبل ولكنّ السلطة لم تكن تحتاج لكلّ هذا الوقت لتبرهن للجميع داخليّا وخارجيّا عن حسن نواياها مادم المشهد يعبّر عن ذلك الانغلاق السياسي والجمعياتي، ولم يبق أمام الرابطييين سوى مواصلة النضال من أجل الحفاظ على هيبة الرابطة ودورها في الشأن العام.
وحدها جمعيّة الصحافيين التونسيين الشرعيّة التي لم تستطع أن تصمد أمام أول محاولة انقلابية ليس لضعفها بقدرما هو راجع لحجم الهجمة عليها، ولم تصمد كهيكل وراحت تتمسّك بشرعيتها التي استمّدتها من أول تقرير عن الحريات الصحفية في تونس، ومارست الدوائر المشبوهة انقلابها الهجين على هيئة شرعيّة جاءت لتعبّر عن هموم قطاع عانى التهميش والإقصاء، إلى درجة أنّ الدوائر الصحافيّة العالميّة لم تعترف بوجود قطاع من الصحفيين في تونس، واحتلّت الصحافة التونسيّة أسفل المراتب العالميّة لسنين طوال. وتجد الهياكل المنصّبة نفسها في كل مرّة في وضع لا يحسد عليه، بوصفها هياكل منقلبة على الشرعيّة لا تحظى بالاعتراف الوطني والدولي، فأذا كانت مكونات المجتمع المدني هي عنوان البلاد ومرجعها فإننا في كل مرّة ومع كل هجمة نفقد عنوانا مركزيّا للبلاد ونهين أنفسنا مدنيّا.
وأنا أتابع معاناة القاضية الفاضلة كلثوم كنّو وزميلاتها ومعاقبتهنّ رفقة قضاة رفعوا شعار استقلال السلطة القضائيّة عن السلطة التنفيذيّة، ورد الاعتبار للقاضي ومنزلته في الحفاظ على العدالة، وجد هؤلاء القضاة الغيورين على سلك القضاة أنفسهم يعانون مسلسل الانقلاب على الهيكل الشرعي لجمعيّة القضاة، وتعرّضوا لنقل تعسفيّة لم تمنعهم من أداء رسالتهم المهنيّة والجمعياتيّة لتمتدّ يد سلطة الإشراف إلى الأرزاق فتقطعها وأصبح السيّد القاضي المحترم بدون راتب شهري يجعله بمنأى عن الخصاصة والحاجة ليسدّ في وجهه باب الرشوة، والمشهد هزلي ساخر عندما يتمّ تجويع القضاة وننتظر منهم عدالة للجياع والفقراء؟
والقائمة تمتدّ نحو قطاع المحامين الشبّان لتفتك بهم خلافاتهم وانقساماتهم فتكون المكاسب للصف الآخر، ونحن نحصي معاركنا الخاسرة، المشهد قد يحتاج منّا بعضا من الحلم والافتراض، ولنتخيّل أن أنّنا نرى مشهدا طلابيّا ثريّا بالحراك السياسي والتحصيل العلمي، وجمعيّة قضاة مستقلّة بذاتها تدير شؤونها بدافع مهني احترافي، وصحافة حرّة تحمي الصحافي وهو يكشف الحقيقة ليعرّيها، ورابطة حقوقيّة تتصدّى لكل محاولة انتهاك لحرمة المواطن وكرامته، وجمعيّة النساء الديمقراطيات وهي تتابع الانتهاك الجسدي للمرأة وتتصدى للعنف المسلّط عليها والمتاجرة بالجسد النسوي ماديّا ومعنويّا... هل يمكن أن نتخيّل هكذا مشهد افتراضي؟ ماذا سيبقى للدعاية السياسيّة التي يتخذّها الحزب الحاكم مبرّرا لمشروعيّة وجوده وسيطرته على مختلف نواحي الحياة؟
قد لا نغالي عندما نقول أنّ هذا الآخر قويّ بضعفنا، صحيح أنّ الهجمة أقوى وأعنف ممّا قد تحتمل منظمة أو جمعيّة مدنيّة لا تملك أجهزة تسلّطيّة ودعما خارقا كتلك التي يمتلكها الحزب الحاكم وأجهزته الأمنيّة والتنظيميّة، وهناك من يتهّم هذه المنظّمات المدنيّة بكونها جمعيّات نخبويّة ظلّت مغلقة على ذاتها فظلّت معزولة عن محيطها الاجتماعي، في حين يرى آخرون أنّ انفتاح الجمعيات يفقدها الضوابط الهيكليّة ويفتح الباب لاختراقها من طرف الانتهازيّة وتدجينها للحزب الحاكم لتكون في الطابور الخامس. إنّ مؤسسات المجتمع المدني واقعة تحت ضغطين: ضغط خارجي قوامه التعسّف السلطوي، وضغط داخلي أساسه الهيكلة النخبويّة، لكنّ تجربة تاريخيّة متميّزة حدثت في الجنوب التونسي أعطت دعما لمنظمّات المجتمع المدني وقرعت نواقيس الخطر بالنسبة للسلطة وهي الحركة الاحتجاجيّة في الحوض ألمنجمي.
كانت انتفاضة الحوض ألمنجمي لحظة فارقة في تاريخ اليلاد وفي العلاقة مع مؤسسات المجتمع المدني التونسي، هي لحظة فارقة حين كسرت الهوّة بين تلك المنظمات والفئات الاجتماعية، وليس غريبا أن نتذكّر كيف تفاعل النّاس في مدينة الرديف مع الرّابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان أثناء اعتقال قادة الحركة في 7أفريل 2008 وعندما طالبوا بالرابطة مفاوضا وحيدا للسلطة، أو تفاعل جمعية النساء الديمقراطيات مع نساء الرديف في كل المحطات النضاليّة، أو التفاعل الشعبي مع مأساة الطلبة ألمسجونين، وتصبح القاعدة التجريبيّة أنّ المنظّمات الأهليّة كلّما التحمت بهموم الناس وقضاياهم كانت منهم ووجدت سندها بين الفئات الاجتماعيّة، ينطبق هذا الكلام على الأحزاب التي خنقتها السلطة محاولة عزلها عن بعدها الاجتماعي مع ارث أركيتيبي لدى التونسيين يرى في المعارضة خطرا مطلقا يشرف على تخوم الخيانة العظمى للوطن، وهو خطاب ما زال الحزب الحاكم يتمعّش منه ترغيبا وترهيبا، مع عجز جليّ لدى كل أطياف المعارضة على ترتيب بيتها الداخلي والدخول في مشروع جبهوي شامل يمنح البلاد نفسا جديدا في مستوى العمل السياسي أو الأهلي المجتمعي ليخرج اليلاد من عنق الزجاجة.
وفي العشريّة الأخيرة إشتدّت وطأة المنع والقمع مع حراك سياسي متميّز إختلفت الأطراف في تقييمه باعتباره إتساعا للشقّة بين تجربتين ورؤيتين متباينتين، وجدنا أنفسنا نتابع تحالفين سياسيين هما هيئة 18أكتوبر بأطيافها السياسيّة، وتحالف المبادرة الوطنيّة بتنوّعها وألوانها. وقد أختلف مع بعض التحليلات حين تحاول تصوير ذلك الخلاف بالتباعد لأرى فيه مرحلة تجميعيّة نحو عمل جبهوي يحمل مشروعا إنتظره الشعب لعقود طوال يخرج الوطن من حالة الجمود السياسي وهذا يتطلّب من الشركاء السياسيين التحلّي بروح المسؤوليّة ونكران الذّات في سبيل المجموعة، وهذا ما نقرأه اليوم في النداءات الصادرة عن الرموز السياسيّة في صفوف المعارضة الوطنيّة تحت وطأة العمل السياسي السيزيفي الذي لم يثمر تحوّلا جذريّا في مستوى الممارسة الديمقراطيّة.
هذا يحتاج مجهودا أكبر بين الأحزاب والمنظّمات والشخصيات الوطنيّة المعنيّة بالشأن العام لنخترق صمت البيانات وتوحيد الجهد لفك الحصار عن المشهد السياسي الوطني، يبدأ ذلك بطرح جملة من الأسئلة تتعلّق بتقييم الواقع موضوعيّا بعيدا عن الحسابات الضيّقة ووضع برنامج شامل لطرح هذا المشروع الجبهوي وتعبئة أغلب طاقات المجتمع المستقيلة وهي تراقب من بعيد بكل حذر وخوف، الواقع اليوم مخيف هروبا من سؤال أين تسير البلاد وقد إنسدّت الآفاق وانغلقت الرؤى باتجاه المستقبل القريب والبعيد، هل سنبقى متفرّجين ونترك مصير الوطن للصدفة في علاقة بالرهانات الوطنيّة.
كلّ هذا يحتاج منّا وقفة تأمّل لا يجب أن تستغرق كثيرا، لننطلق نحو مرحلة الفعل الحقيقي في علاقة بجميع الملفّات المفتوحة على جميع الإحتمالات ما لم نتحرّك بكل مسؤوليّة وطنيّة تنتفي فيها الحسابات الضيّقة والبحث عن المكاسب الظرفيّة لنترك للأجيال اللاحقة إرثا مجتمعيّا متميّزا.
نشر بالطريق الجدد عدد 176 ليوم 17أفريل 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق