الاثنين، 25 يناير 2016

عبيد خليفي: تونس، الإحتجاجات الشعبية بين الديناميكية الثورية والإنتكاسات السياسية



لا أحد يستطيع أن يدّعي أن الإحتجاجات الإجتماعية المطلبية التي عرفتها تونس في المدّة الأخيرة  كانت مفاجئة، بل إنّ هذه الإحتجاجات التي إندلعت في محافظة القصرين وعمّت كافة المحافظات الداخلية والساحليّة منها كانت نتيجة طبيعيّة لمسار سياسي أعرج أنتج نسخة مشوّهة لديمقراطيّة عصريّة بين إئتلاف حكومي هجين مسنود بتكتل نيابي كبير من جهة، ومؤسّسة رئاسيّة تعاني العجز والتسلط من جهة ثانية، فما من شكّ أنّ نظام الحكم في تونس يعتمد على نظام برلماني مشوّه، لأنّ رئيس الحكومة الحبيب الصيد إستعاد صورة الوزير الأول كما في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فهو وزير أوّل أو الموظّف السامي الذي يأتمر بتوجيهات قصر قرطاج في توزيع الحقائب الوزارية وتكوين الإئتلاف الحكومي بناء على تفاهمات حصلت بين الشيخين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي منذ ما قبل الإنتخابات.
إستطاعت فورة الإحتجاجات الشعبية خلال أيامها الأولى أن تهزم الماكينة الإعلامية للإئتلاف الحاكم أو وزراءهم المرتبكين في مناصبهم، فعجزت عن تشويهها أو تخوينها، لذلك راحت تعلن صراحة "أنّها تتفهّم هذه الحركات الإحتجاجيّة" معلنة عن إجراءات إقتصادية هشّة لا تحمل حلولا جذريّة لواقع 750 ألف عاطل عن العمل منهم 250 ألف صاحب شهادة جامعية عليا، والواقع يقول أن ميزانية الدولة لسنة 2016 لن تبعث أي أمل لهذا الجيش من المعطّلين مع توقعات بنسبة نمو 2,5% ، وهي نسبة غير قادرة على إمتصاص حتى خريجي الجامعة لنفس السنة، هذا المؤشر الإقتصادي هو إنعكاس لضبابية المشهد السياسي في تونس، فهو العجز التام للحزب الأغلبي "نداء تونس" الذي يعاني الإنقسامات الدّاخلية جرّاء مسألة التوريث التي سقط فيها رئيس الحزب الباجي قايد السبسي بعد دخوله قصر قرطاج، وهو التحيّن والتحيّل للحزب الثاني حركة النهضة في الدفاع عن توجهات الحكومة حفاظا على مظلّة السلامة والتمكّن من أجهزة الحكم في ظل ظروف إقليمية معادية لهذا الوفاق الحزبي بين شريكي الحكم في تونس.
مع تطوّر المشهد الإحتجاجي في تونس الذي قاده جيش المعطّلين حدث تحوّل غريب في المشهد الإحتجاجي قام على عنصرين يهدّدان التجربة الديمقراطيّة في تونس بالإنهيار: الأول دخول عناصر مشبوهة ومليشيات إجراميّة بالتوازي مع الحركة الإحتجاجية في عمليات حرق وقطع للطرق ونهب للممتلكات الخاصة والعامة، والثاني هو الإعلان عن تحرّكات مشبوهة للعناصر الإرهابيّة في الجبال والحدود والمدن تطوّرت إلى مواجهات محدودة في المكان والزمان، وهذين العنصرين جعل خطاب الإئتلاف الحكومي والقصر يتحوّل في وصف ما يجري من التفهّم للحركة الإحتجاجية المشروعة إلى الإدانة والتنديد وإتهام أطراف سياسيّة داخلية وأخرى خارجيّة بالوقوف خلف هذه التحركات الشعبيّة، وهو خطاب تعوّد عليه التونسيون منذ زمن النظام السابق لن يزيد الوضع العام سوى مشاعر الإحتقان والتشنّج والإنتقام، بل إنّ هذا الدخول المفاجئ للعناصر الإجراميّة على خط الحركة الإحتجاجيّة يطرح أسئلة محيّرة، ونكاد نتّهم أطرافا في الإئتلاف الحكومي بالوقوف وراء هذه المليشيات من أجل إنقاذ نفسها من ورطة الفشل السياسي والإقتصادي.
من المفترض أنّ التجربة الديمقراطية في تونس هي فريدة في نجاحها ومعزولة في سياقها الإقليمي وخاصة في ما يعرف بدول الربيع العربي، وهذا التفرّد لن يمنحها حصانة إذا لم تحصّن نفسها من الدّاخل بحكومة قادرة على تلبية المطالب الشعبيّة التي مرّ عليها خمس سنوات دون أن يتحسّسها المواطن في حياته المعيشيّة بإستثناء حريّة التعبير والممارسة السياسية، فقد كان على الرئيس أن يكف عن التدخّل في شؤون حزبه نداء تونس لمناصرة شقّ يرأسه إبنه وأن يقدّم نفسه رئيسا لكل التونسيين، كما كان على رئيس الحكومة أن يشتغل وفق الصلاحيات التي منحها له الدستور دون الإرتهان لأوامر القصر، وبدل المراهنة على القروض يحتاج الإقتصاد التونسي إلى ميزانية تقوم على:
·      الدخول في حملة دولية لمساعدة التجربة التونسية من خلال مراجعة الديون الكريهة والمطالبة بتجميد السداد لفترة ثلاث سنوات على الأقل حتى يقع إنعاش الإقتصاد بتدخّل الدولة في بعث المشاريع الإقتصادية وتطوير البنية التحتيّة ودمج المعطّلين عن العمل في الدورة الإقتصاديّة، علما وأنّ هذه الديون تستنزف 49% من الميزانية العامة، ولا يبدو هذا المطلب مستحيلا حين يقع إستثمار الرصيد المعنوي والرمزي للثورة التونسية يضاف إليها حصول تونس على جائزة نوبل للسلام وحرص دول الضفة الشمالية للمتوسط على حفظ الإستقرار في تونس حتى لا تتحمّل تبعات ما قد يحصل من فوضى وخيمة.
·      مراجعة المنظومة الجبائية بشكل جذري وعاجل من أجل إرساء عدالة جبائيّة توزّع الواجب الجبائي حسب الإنتاج والثروة حتى يتم القضاء على التهرّب الضريبي، فمحدودي الدخل في تونس يزودون الخزينة العامة والميزانية بنسبة 70% من الضرائب، في حين يتمتّع الأثرياء بإمتيازات ضريبية من قبيل رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات وملاكي الأراضي والعقارات وبعض الوظائف ذات الدخل المرتفع كالأطباء والمحامين ومكاتب المهندسين.. فالنظام الضريبي الحالي وحتى بعد تعديله بشكل سطحي يحافظ على الهوّة السحيقة بين الفقراء والأثرياء، بل سحق الطبقة الوسطى تحت خط الفقر والخصاصة.
·      مقاومة الفساد وإيجاد هياكل فعّالة للحوكمة الرشيدة، فالشرارة الأولى للإحتجاجات كانت عملية فساد صغرى في شطب إسم أحد الناجحين بالقصرين في مناظرة تشغيل، رافقها سرقة مسؤول محلي لهبة منحتها مؤسسة الرئاسة لتلاميذ الأرياف (دراجات هوائية)، وتشير المؤشرات الإقتصادية أنّ الفساد في تونس يلتهم نسبة 2% من نسبة النمو الإقتصادي، كما أنّ التهريب يمثّل 50% من الإقتصاد الوطني، وهو ما لم تعمل حكومات ما بعد الثورة على مقاومته، بل إنّ المؤشرات تقول أنّ نسبة الفساد تفاقمت وتضاعفت في مناخ التسيّب وضعف الجهاز الرقابي.

لا شكّ أنّ الإحتجاجات الإجتماعية ستنفجر بين الحين والحين وذات كل شهر يناير الذي صار شهر الحراك الإجتماعي والشعبي في تونس، ولا شكّ أنّ مناخ الحريّة في تونس سيعطي المعطّلين روح المبادرة في هذه التحرّكات لتجد النخبة الحاكمة نفسها في مأزق ما بين الوعود الإنتخابيّة والواقع الموضوعي وعدم الجرأة في تغيير أوضاع إقتصادية معقّدة تحتاج جراحة ثوريّة قد لا يقبلها الوضع الداخلي والخطوط الإقليمية أو حتى المصالح الدولية، فتلك هي الديناميكية الثورية حين تقع بين النخبة السياسيّة والفئات الشعبيّة.  
المصدر الحوار المتمدّن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=502296


السبت، 2 يناير 2016

عبيد خليفي: مصر: التعذيب ومداخل الإرهاب

يعبّر حجم التعذيب في مصر عن حالة إختناق سياسي وإقتصادي يعيشها النظام العسكري الذي إنقلب على إرادة شعبية في الثورة والحرية والديمقراطية، وقد بلغ التعذيب في عهد الفريق عبد الفتاح السيسي حالة من الجنون لم تشهده مصر في العهود السابقة، بل صار التعذيب منهج حكم وسيطرة للتطويع والإذلال والإنتقام، ويزداد التعذيب وحشيّة عندما إقتربت الذكرى الخامسة للثورة المصريّة مع تصاعد الدّعوات الشعبيّة لتصحيح مسار الثورة، وقد سجّلت مراكز رصد إنتهاكات حقوق الإنسان فضاعات وجرائم يرتكبها النظام العسكري من الشارع إلى أقسام الشرطة فمراكز أمن الدولة والمخابرات العسكريّة إلى السجون المصرية سيئة السمعة.
 منذ الإنقلاب العسكري في يوليو 2013 سجّلت مراكز الرّصد الحقوقيّة قرابة 312 حالة وفاة جرّاء التعذيب المنهجي والإهمال الطبّي، يضاف إليها الإختطاف والقتل ثم رمي الجثث في الصحراء والإدّعاء بأنهم إرهابيون ماتوا في المواجهات مع الجماعات المسلحة، وقد بلغ عدد المحتجزين منذ الإنقلاب العسكري قرابة 41 ألف معتقل بحسب ما وثقته منظمة "هيومن رايتس ووتش"، وفي تقارير غير رسمية بلغ 50 ألف معتقل، منهم 29 ألف من جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يشير إلى أنّ النظام العسكري يخوض حربا ضدّ كل معارضيه من مختلف الإتجاهات السياسيّة وليس جماعة الإخوان المسلمين فقط، وسلاحه في ذلك التعذيب والقتل الممنهج، ويبلغ التعذيب إلى منتهاه في العقاب الجماعي المسلّط على عائلات المعتقلين من حصار وإقتحامات وتعنيف مباشر يطال أكثر من 50 ألف عائلة، وقد خلص تقرير هيومن رايتس ووتش إلى القول: "لقد أقام الرّئيس السّيسي وأعوانه نظاما شديد التقييد بإعتماده على الإعتقال التعسّفي والتعذيب أثناء الإحتجاز والإستهانة بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، وضيقه بالنقد العلني لنظام حكمه"
في الحقيقة إنّ توصيف المنظمة الدولية هيومن رايتس ووتش لهذه الإنتهاكات لا ترتقي للتعبير عن حجم الجرائم والمجازر التي يرتكبها النظام العسكري في مصر، فبالإظافة للفشل في المجال الإقتصادي الذي جعل الشعب المصري يرزخ تحت خط الفقر  ليموت جوعا لغياب أي مشروع تنموي ناجع، والفشل السياسي في صناعة برلمان من المهرّجين والطفيليين من فنانيين فاسدين وإعلاميين إنتهازيين وقيادات أمنية وعسكرية متقاعدة، فإنّ عبد الفتاح السيسي لا يملك سوى الأجهزة الأمنية والعسكريّة لإغتصاب التأييد الشعبي تحت التهديد والتعذيب والتجويع والإستنجاد بالجوقة الدعائية لنظام حسني مبارك، فالشهادات المروّعة لبعض الناجين من محارق أقسام البوليس وأمن الدولة والسجون أهمها سجن العقرب بطرّة تعبّر عن حجم الإنتهاكات الجسيمة تجاه شباب الثورة ومعارضي الإنقلاب العسكري، فأشكال التعذيب تختزل كل رصيد الشرق الأوسط وتقاليده الوحشية في التعامل مع المعارضين، وهو ما جعل التقارير الدوليّة تجمع على توصيف سياسة عبد الفتاح السيسي في مصر بسياسة القتل البطيء، آخذين في الإعتبار غياب الأفق السياسي للنظام الإنقلابي دون أية بوادر للإنفراج.
إنّ الصمت الدولي تجاه ما يحدث في مخازن الموت المصريّة تحكمه المتغيرات الدولية في سياق الإنشغال بالحرب الدولية على الإرهاب وظهور تحالفات متناقضة في هذه الحرب، ليستغلّ النظام العسكري المصري هذا الإنشغال كي يستفرد بالشعب المصري تعذيبا وتذبيحا، وهو صمت مخزي ووصمة عار لنظام دولي مرهون بمصالح إقتصادية وتحالفات إقليميّة لا تراعي مصالح الشعوب في تقرير مصيرها، لكنّ الخطر يكمن في اليأس والإحباط الذي قد يصيب هذه الشعوب تجاه التغيير السياسي السلمي ليعتنق أفراده العقيدة الجهادية المسلّحة في مواجهة قمع الأنظمة الوحشيّة، ولقد أثبت الإنقلاب العسكري في مصر لدى البعض صحّة رؤية زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري حين قال بأنّ الإسلام السياسي عاجز عن إقتلاع جذور الدولة العميقة المستبدّة وأنّ الإسلام الجهادي هو القادر لوحده على التغيير والتحرير، وهنا تكمن خطورة المشهد المصري تحت حكم العسكر الذي ساهم في تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من شبه جزيرة سيناء مؤسسا فرعا بصدد تكبيد الجيش المصري خسائر فادحة في المنشآت والأرواح، ولعلّ التجربة الجزائريّة في التسعينات خير دليل على ذلك خلال عشرية الدّم والقتل.
التعذيب الجسدي والقتل البطيء والإضطهاد السياسي هو العنوان الرئيسي لظهور التنظيمات الجهادية المسلّحة، فالحافز النفسي هو الذي يدفع بالشباب للهروب من التعذيب الوحشي اليومي إلى التفجير الدّموي الآني، فحين يفتقد الشباب الثوري روح المبادرة ليقع تهميشه والتصدّي لطموحاته بالأجهزة البوليسية والعسكرية القمعية وتسليط شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي عليه، فنحن ندفعه غصبا للصدّام مع الدولة التي تمارس التعذيب وتشرّع له، وللصدام مع المجتمع الساكت العاجز عن ظلم الدولة، فالسكوت المدني والدولي تجاه مملكة التعذيب في مصر جريمة في حق الإنسانية ستجرّنا إلى دوّامة من العنف الأهوج لتحرق الأخضر واليابس، ولهذا يفترض أن نخرج من طور رصد وإحصاء آفة التعذيب إلى طور التجنيد الدولي في حملة دولية شعبيّة للتصدّي لإنتهاكات النظام العسكري المصري ومحاصرة أعوانه وإعلامييه وكتابه ومنظّريه..

إنّ السكوت على ما يجري في مصر من تعذيب وخطف وإختفاء قسري وقتل ممنهج هو جريمة معلّقة في رقابنا ما دمنا ندّعي الإنتماء لصفة الإنسانيّة...