السبت، 30 مايو 2015

عبيد خليفي: مصر، الحكم المرفوع والقتل المدفوع

مصر: الحكم المرفوع والقتل المدفوع

يبدو أن الأحداث في مصر تتجه إلى مزيد من التعقيد قد يُدخلها في نفق عميق من العنف الدموي أو ما يمكن أن نسمّيه "منعرج الدّم"، فبعد صدور ترسانة جديدة من أحكام الإعدام في حق رموز جماعة الإخوان وقواعدها في قضيتي "الهروب من سجن النطرون" إبّان ثورة 25 يناير و"تهمة التخابر مع حماس وحزب الله"، حدثت عمليّة إرهابيّة طالت ثلاثة قضاة مع سائقهم في العريش من شبه جزيرة سيناء لتعلن وزارة الداخليّة المصريّة حالة الإستنفار العام، ولا يكاد يمرّ يوم في مصر دون أن تحدث عمليات عنف متفرّقة سواء تعلّق الأمر بالهجمات المتتالية على المقرّات الأمنية والعسكريّة أو بالهجمات الأمنية على مسيرات جماعة الإخوان المسلمين وأنصار الشرعيّة في مصر، وصار المشهد أشبه بحرب الشوارع بين عدّة أطراف.
كشفت الأحكام الصادرة عن الرئيس المعزول محمد مرسي ومن معه من قيادات حركة الإخوان عن منزلة القضاء في العالم العربي ومصر خصوصا، فلطالما مجّد العرب القضاء المصري باعتباره سلطة مستقلّة وطليعة القضاء في العالم العربي عبر أحكام تاريخية صادرة في بعض قضايا الرأي العام، لكن أحكامه الأخيرة القاضية بالإعدام في حق مصريين (الإخوان) ولبنانيين (حزب الله) وفلسطينيين (حماس) بيّنت مهزلة قضائيّة في إصدار أحكام على شهداء فلسطينيين وأسرى في السجون الإسرائيليّة بحسب بيان وزارة الداخلية الفلسطينية بغزّة وهم كالآتي:
·         رائد العطّار: أستشهد في 21 أوت 2014
·         حسام الصانع: أستشهد في 27 ديسمبر 2008
·         تيسير أبو سنيمة: أستشهد في 8 أفريل 2011.
·         عاهد عبد ربه الدحدوح: أستشهد في 30 جويلية 2014.
·         محمد سمير أبو لبدة: متوفي في عام 2005.
·         محمد خليل أبو شاويش: متوفي في عام 2007.
·         حسن سلامة: أسير لدى الإحتلال الإسرائيلي منذ عام 1996.
ويشار إلى أنّ حصيلة أحكام القضاء المصري منذ الإنقلاب العسكري على الرئيس المعزول محمد مرسي بلغت:7  أحكام إعدام تم تنفيذها حتى الآن، و479 حكما أوليا في إطار الطعن والاستئناف، و122 قرار إحالة للمفتى بانتظار الرأي الشرعي، يضاف إلى ذلك أن النظام العسكري في مصر قد زجّ بـــأكثر من 28 ألف مواطن مصري من أنصار الشرعيّة، وربّما تكون هذه الحصيلة الأعنف في كل المواجهات التي دارت بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين منذ محنة 1948 التي راح ضحيّتها رئيس الوزراء النقراشي باشا وأتهم فيها الإخوان، لتتوالي محن جماعة الإخوان في محاكمات سياسيّة شهيرة في : 1954(7 أحكام بالإعدام)، 1965(7 أحكام بالإعدام)، 1995، 1996، 1999، 2001، 2006.. وكانت هذه المحاكمات أشبه بموجات المواجهة بين النظام المصري وجماعة الإخوان، وإن الجهاز القضائي اليوم الذي يستعجل إدانة شباب الثورة وجماعة الإخوان هو نفس الجهاز الذي منح البراءة لرموز نظام مبارك عن كل جرائمه طيلة ربع قرن.
وقد لعب القضاء العسكري دورا محوريّا في ضرب حركة الإخوان المسلمين ومسانديها من "ائتلاف دعم الشرعيّة" عبر أحكام سياسيّة قاسية لا تتوفّر فيها أبسط شروط المحاكمة العادلة، وقبل الثورة كانت تتمّ هذه المحاكمات بالإستناد إلى قرار رئاسي يحيل أوراق القضايا على أنظار المحاكم العسكريّة دون المحاكم المدنيّة بتكييف سياسي دستوري يتعلّق بما يسمّى "الأمن القومي"، أما اليوم فإنّ هذه المحاكمات تتخذ من المدنيّة صورة شكليّة لتجري المحاكمات في "أكاديميّة الشرطة" تحت أنظار وتسيير من المؤسسة العسكريّة، فإن يكن للإخوان أخطاء سياسيّة في إدارة البلاد بعد صعودهم للسلطة عبر إنتخابات نزيهة إلى حد ما، فهذا لا يبرّر هذه المجازر القضائيّة عندما يتحوّل القضاء إلى جهاز تنفيذي لدى المؤسسة العسكريّة ليبطش بالشعب المصري عقابا له على ثورته وإختياراته السياسية، وإن كانت أخطاء الإخوان في السلطة دامت سنتين، فإنّ جرائم المؤسسة العسكرية دامت عهودا وجعلت من مصر تتخلّى عن دورها الريادي إقليميّا ودوليّا لفائدة القوى الإقليمية الثلاثة: إسرائيل، تركيا، وإيران، وتتقهقر إقتصاديا وإجتماعيا قياسا للفترة الناصريّة.
اليقين عندنا أنّ النظام العسكري في مصر لن يقدم على تثبيت أحكام الإعدام أو تنفيذها في حق جماعة الإخوان ورموزها، وفي المقابل نفّذ وسينفّذ بعض الإعدامات في بعض المتهمين بالإنتماء للتيارات الجهادية في مصر على غرار جماعات: "بيت المقدس"، "جند الإسلام"، "التوحيد والجهاد"، و"شورى المجاهدين"، ويأتي ذلك في سياق تكتيك سياسي أهوج للمؤسسة العسكريّة في تثبيت حكم عبد الفتاح السيسي وتركيع جماعة الإخوان للبحث عن مخرج سياسي يقضي على التجربة الديمقراطية في مصر.
إنّ المؤسسة العسكريّة تدفع بمصر نحو المجهول، نحو دوّامة من العنف الأهوج الذي راح ضحيته حتى الآن المئات من المصريين في صفوف المدنيين والمؤسستين العسكرية والأمنية، ليطال اليوم المؤسسة القضائيّة التي زجّ بها العسكر في معركته مع الإخوان، دوامة من العنف زجّت بالآلاف من الشباب في المعتقلات والسجون وتشريد العائلات وفصل الطلبة وقطع الأرزاق في معاناة تقطيع مفاصل المجتمع المصري، فمصر اليوم تدخل مرحلة عسكرة الدولة والمجتمع بضرب الإخوان كأكبر طرف سياسي في البلاد، وضرب القوى التقدميّة عبر محاكمات لشباب الثورة في مصر، والتضييق على تنظيمات المجتمع المدني، ولم تسلم من ذلك حتى "ألتراس" الجمعيات الرياضية.
يبدو أن المؤسّسة العسكريّة في مصر ومن يقف خلفها من رجال نظام مبارك فرضت عسكرة المجتمع والدولة كبديل لأسلمة المجتمع والدولة على يد الإخوان، وكان يمكن للمؤسسة العسكرية أن تمارس دورا ضاغطا مانعا على الإخوان وهم في الحكم من أجل الحفاظ على التنوّع الإجتماعي والسياسي والديني للدولة الوطنية المصريّة، دون أن تذهب إلى إنقلاب دموي قضى على أول تجربة ديمقراطية إنتخابيّة تعيشها مصر وهدّم بنية السلم الإجتماعي، كان يمكنها ذلك لتتلافى خلق إنقسام سياسي وصراع دموي تدخّلت فيه أطراف إقليميّة عربيّة وغير عربيّة من مصلحتها أن تخرج مصر من موقع الريادة إلى موقع التّبعيّة.
إنّ ما يحدث اليوم في مصر سينعكس بشكل مباشر على المنطقة العربيّة ككل، فمراكز النفوذ العربي من سوريا إلى العراق وليبيا فاليمن تعيش في دوّامة العنف الوحشي من صراعات وحروب ستتلاشى معها بنية الدولة الوطنيّة في ظل دور خليجي هش لا تحكمه إستراتيجية بعيدة المدى، وأن تلتحق مصر بدوامة العنف بسبب رعونة المؤسسة العسكرية المصريّة فإنّ مصير المنطقة العربيّة سيظلّ رهين القوى الإقليمية الأخرى من إسرائيل وتركيا وإيران، وهذه القوى أدركت أنّ إمكانياتها لا تسمح لها بأن تكون قوى دوليّة، لكنّها تستطيع أن تلعب دورا إقليميّا يحفظ لها مصالحها دون أن تعادي القوى الغربيّة الكبرى، لذلك إستطاعت أن تفرض نفسها وقوّتها أمام القوى الغربيّة الأوروبية والأمريكيّة فأصبحت تختار وتُستشار في تحديد مصير الشرق الأوسط.
المصدر: صحيفة العربي الجديد 30 مايو 2015
http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/5/29/

الجمعة، 15 مايو 2015

عبيد خليفي: مشروع المجلس الأعلى للقضاء في تونس: الإجهاز على آخر بقايا روح الثورة


بعد تركيز ضلعي مثلث السلطة في تونس عبر إنتخابات 24 أكتوبر 2014 للسلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة، ظلّت تونس تنتظر تركيز ثالث الأضلع وهو السلطة القضائيّة عبر المصادقة على المجلس الأعلى للقضاء وإنتخابه ليكون بديلا للهيئة الوقتية، ولا أحد يستطيع أن ينكر النضالات التي خاضها قضاة تونس في عهد زين العابدين بن علي من أجل معركة "القضاء المستقل" والتي قدّم فيها طليعة من القضاة عديد التضحيات بما تعرّضوا له من النّقل العقابية والتأديب الظالم والفصل عن العمل وإقتطاع الأجور والمحاصرة الأمنية، وقد كانت جمعية القضاة التونسيين في صدارة تلك النضالات والتضحيات ساندها كل الذين نكّل بهم "قضاة التعليمات" في محاكمات الرأي والسياسة، وقد أفرزت الثورة هيئة وقتيّة للقضاء مكّنت القضاء من هامش كبير من الإستقلاليّة وإن كان محدودا، في إنتظار تأسيس المجلس الأعلى للقضاء بشكل دائم وثابت ومنتخب.
وإن كان المشهد السياسي قد أفرز تحالفا تكتيكيّا لا يخفي إنتهازيته بين حزب نداء تونس الذي أعاد صياغة منظومة النظام البائد، وحزب حركة النهضة الخارج من تجربة الفشل المرتهن بالخوف من تجربة النموذج المصري، فإنّ روح الثورة والمشروع الثوري الطموح قد بدأ في الذبول والتلاشي والإنحصار بعد إنتخابات جعلت أحد ركائز النظام البورقيبي يرتقي لسدّة الرئاسة مع مجلس نيابي مشوّه تسيطر عليه كتلة من ألوية النظام القديم وبعض رجال المال الفاسد يشاركهم حزب النهضة الباحث عن موقع سياسي مهما "ذلّ" شأنه (69 نائب=وزير واحد)، مع غياب معارضة برلمانية قويّة قد تكون رقيبا ومانعا لكل إتحراف تشريعي أو تنفيذي.
ويأتي مشروع المجلس الأعلى للقضاء الذي عرضته الحكومة التونسية وشوهته لجنة التشريع العام بمجلس النواب التونسي في نسخته النهائية المعروضة على المجلس تتويجا لمسار الإنهيار الثوري في تونس، فلا أحد من أطراف الإئتلاف الحكومي يرغب في ترسيخ قضاء مستقل كسلطة ثالثة تخلق التوازن مع بقيّة السلط التنفيذية والتشريعيّة ، ولكن الرغبة تحدوهم في جعل القضاء مرفقا حكوميّا وجهازا مُطوّعا تتحكّم فيه وزارة العدل عبر تركيبة المجلس من ناحية، ومجلس التفقديّة العامة من ناحية ثانية، وأدماج القضاء العسكري في المجلس من ناحية ثالثة، يضاف إلى ذلك التجاذبات التي حصلت بين القضاة والمحامين والتي جعلت من المحامين الذين يمثّلون غالبيّة لجنة التشريع العام بمجلس النواب يسعون إلى تقليص دور القضاة وتحجيمهم لصراع أزلي بين الطرفين.
بعد خمسة أيام تمت المصادقة على المشروع المشوّه لمفهوم العدل والعدالة، وتبدو هذه العجلة في المصادقة مريبة في إخضاع القضاة وبعض هياكل القضاء الأخرى إلى سياسة الأمر الواقع، علما وأنّ الهياكل القضائية دخلت في تحركات إحتجاجيّة كبيرة (إضراب بإسبوع، وقفات إحتجاجية أمام مجلس النواب..)، بل ذهبت جمعيّة القضاة التونسيين إلى التهديد بمقاطعة هذا المجلس المشوّه في صيغته الحالية، وإنّ التوازنات البرلمانية توحي بأنّ التوافق بين حركة النهضة(69 نائب) وحركة نداء تونس(88 نائب) ستجعل من المشروع أمرا واقعا خلال أسبوع من بداية المناقشة، رغم مقاطعة الكتلة البرلمانية للجبهة الشعبية (15 نائب)، وإحتجاج الكتلة الإجتماعية الديمقراطية (10 نواب)، وإستياء محتشم من كتلة آفاق تونس (8 نواب).
إن حرص حركة نداء تونس على عدم الإعتراف بالقضاء كسلطة ثالثة يبدو مفهوما لما يمثّله هذا الحزب من إرث للنظام السابق الذي جعل القضاء أداة لزجر الخصوم السياسيين ومعاقبتهم بأحكام سياسيّة مغلّفة بصبغة قضائيّة، فإنّنا لا نفهم إصرار حركة النهضة على السير في ركاب حركة النداء وعدم منح القضاء مفهوم الإستقلاليّة، فحركة النهضة عانت ويلات القضاء التابع وقضاة التعليمات خلال عشريتين إكتوت فيهما بأشد المحاكمات السياسيّة الجائرة وزجّت بالآلاف من الإسلاميين في السجون، بعضهم يتحدّث عن صفقة سياسيّة بين من حكم نصف قرن(النداء) وبين من حكم سنتين(النهضة)، ومحتوى الصفقة أن لا محاسبة عن تجاوزات الماضي، وبالتالي طي الصفحة وعدم السماح للجهاز القضائي بأن يفتح الملفات لكلا الطرفين المتحالفين.
يبدو أنّ معركة إستقلال القضاء كسلطة ثالثة تخلق التوازن بين بقيّة السلطات هي معركة لا تهم القضاة وحدهم كجسم يبحث عن حريّته الوظيفيّة، بل تهمّ كل التونسيين في علاقة بتحقيق العدالة وإزاحة عهود من الظلم والفساد السياسي والمالي، وأولى الملفّات العالقة اليوم هو ملف العدالة الإنتقاليّة التي يفترض أن تنتصب وفق مرجعيّة مجلس أعلى للقضاء يكون مستقلاّ وبعيدا عن السلطة التنفيذيّة التي تحكمها حسابات وتوازنات سياسيّة قد تدفن هذا الملف ليزداد ألم عائلات شهداء الثورة وضحايا الحقبة الديكتاتوريّة، يضاف إلى ذلك حجم الفساد المالي والتهرّب الضريبي الذي تعاني منه البلاد التونسيّة ولم يجد سلطة قضائيّة مستقلة تردعه وتحجّم دوره، فبعض التقديرات العلميّة تتحدث عن 450 مليون دينار حجم الفساد، و27 بالمائة من الشعب التونسي كانوا ضحية الفساد في ظل جهار قضائي عاجز محكوم بسلطة تنفيذية غارقة في الفساد الإداري والمالي.
أمن جمهوري وإعلام حرّ وقضاء مستقل: ثلاثة شروط للخروج من عهد الديكتاتورية نحو عهد الديمقراطيّة، هي ثلاثة شروط وفاء لروح الثورة، وما الإنتخابات إلاّ جزء من هذا الخروج الآمن المدفوع بإرادة سياسيّة قويّة تسعى للتغيير، وفي الواقع مازالت المؤسسة الأمنيّة تعاني قصورا في التطوير والمهنيّة تتجاذبها أطراف نقابيّة وسلطة تنفيذيّة، أما الإعلام فقد عادت الضغوط لتلاحقه وتراقبه في خطّه التحريري وسياساته وهو ما جاء في تقرير مفصّل للنقابة الوطنية للصحفيين، فصارت حريته مهدّدة بالزوال، أما القضاء فنحن أمام مشروع مجلس أعلى للقضاء سيعيدنا إلى "قضاة التعليمات" بوصفه جهازا وسلكا لم يرتق إلى منزلة "السلطة"، وإذا تمّت المصادقة على هذا المشروع بصيغته الحاليّة فستكون الثورة في تونس قد شهدت إنتكاسة كبرى وإغتيالا لبقايا روح ثورة 14 جانفي 2011.
عبيد خليفي
المصدر: جريدة رأي اليوم 15 ماي 2015