الجمعة، 15 مايو 2015

عبيد خليفي: مشروع المجلس الأعلى للقضاء في تونس: الإجهاز على آخر بقايا روح الثورة


بعد تركيز ضلعي مثلث السلطة في تونس عبر إنتخابات 24 أكتوبر 2014 للسلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة، ظلّت تونس تنتظر تركيز ثالث الأضلع وهو السلطة القضائيّة عبر المصادقة على المجلس الأعلى للقضاء وإنتخابه ليكون بديلا للهيئة الوقتية، ولا أحد يستطيع أن ينكر النضالات التي خاضها قضاة تونس في عهد زين العابدين بن علي من أجل معركة "القضاء المستقل" والتي قدّم فيها طليعة من القضاة عديد التضحيات بما تعرّضوا له من النّقل العقابية والتأديب الظالم والفصل عن العمل وإقتطاع الأجور والمحاصرة الأمنية، وقد كانت جمعية القضاة التونسيين في صدارة تلك النضالات والتضحيات ساندها كل الذين نكّل بهم "قضاة التعليمات" في محاكمات الرأي والسياسة، وقد أفرزت الثورة هيئة وقتيّة للقضاء مكّنت القضاء من هامش كبير من الإستقلاليّة وإن كان محدودا، في إنتظار تأسيس المجلس الأعلى للقضاء بشكل دائم وثابت ومنتخب.
وإن كان المشهد السياسي قد أفرز تحالفا تكتيكيّا لا يخفي إنتهازيته بين حزب نداء تونس الذي أعاد صياغة منظومة النظام البائد، وحزب حركة النهضة الخارج من تجربة الفشل المرتهن بالخوف من تجربة النموذج المصري، فإنّ روح الثورة والمشروع الثوري الطموح قد بدأ في الذبول والتلاشي والإنحصار بعد إنتخابات جعلت أحد ركائز النظام البورقيبي يرتقي لسدّة الرئاسة مع مجلس نيابي مشوّه تسيطر عليه كتلة من ألوية النظام القديم وبعض رجال المال الفاسد يشاركهم حزب النهضة الباحث عن موقع سياسي مهما "ذلّ" شأنه (69 نائب=وزير واحد)، مع غياب معارضة برلمانية قويّة قد تكون رقيبا ومانعا لكل إتحراف تشريعي أو تنفيذي.
ويأتي مشروع المجلس الأعلى للقضاء الذي عرضته الحكومة التونسية وشوهته لجنة التشريع العام بمجلس النواب التونسي في نسخته النهائية المعروضة على المجلس تتويجا لمسار الإنهيار الثوري في تونس، فلا أحد من أطراف الإئتلاف الحكومي يرغب في ترسيخ قضاء مستقل كسلطة ثالثة تخلق التوازن مع بقيّة السلط التنفيذية والتشريعيّة ، ولكن الرغبة تحدوهم في جعل القضاء مرفقا حكوميّا وجهازا مُطوّعا تتحكّم فيه وزارة العدل عبر تركيبة المجلس من ناحية، ومجلس التفقديّة العامة من ناحية ثانية، وأدماج القضاء العسكري في المجلس من ناحية ثالثة، يضاف إلى ذلك التجاذبات التي حصلت بين القضاة والمحامين والتي جعلت من المحامين الذين يمثّلون غالبيّة لجنة التشريع العام بمجلس النواب يسعون إلى تقليص دور القضاة وتحجيمهم لصراع أزلي بين الطرفين.
بعد خمسة أيام تمت المصادقة على المشروع المشوّه لمفهوم العدل والعدالة، وتبدو هذه العجلة في المصادقة مريبة في إخضاع القضاة وبعض هياكل القضاء الأخرى إلى سياسة الأمر الواقع، علما وأنّ الهياكل القضائية دخلت في تحركات إحتجاجيّة كبيرة (إضراب بإسبوع، وقفات إحتجاجية أمام مجلس النواب..)، بل ذهبت جمعيّة القضاة التونسيين إلى التهديد بمقاطعة هذا المجلس المشوّه في صيغته الحالية، وإنّ التوازنات البرلمانية توحي بأنّ التوافق بين حركة النهضة(69 نائب) وحركة نداء تونس(88 نائب) ستجعل من المشروع أمرا واقعا خلال أسبوع من بداية المناقشة، رغم مقاطعة الكتلة البرلمانية للجبهة الشعبية (15 نائب)، وإحتجاج الكتلة الإجتماعية الديمقراطية (10 نواب)، وإستياء محتشم من كتلة آفاق تونس (8 نواب).
إن حرص حركة نداء تونس على عدم الإعتراف بالقضاء كسلطة ثالثة يبدو مفهوما لما يمثّله هذا الحزب من إرث للنظام السابق الذي جعل القضاء أداة لزجر الخصوم السياسيين ومعاقبتهم بأحكام سياسيّة مغلّفة بصبغة قضائيّة، فإنّنا لا نفهم إصرار حركة النهضة على السير في ركاب حركة النداء وعدم منح القضاء مفهوم الإستقلاليّة، فحركة النهضة عانت ويلات القضاء التابع وقضاة التعليمات خلال عشريتين إكتوت فيهما بأشد المحاكمات السياسيّة الجائرة وزجّت بالآلاف من الإسلاميين في السجون، بعضهم يتحدّث عن صفقة سياسيّة بين من حكم نصف قرن(النداء) وبين من حكم سنتين(النهضة)، ومحتوى الصفقة أن لا محاسبة عن تجاوزات الماضي، وبالتالي طي الصفحة وعدم السماح للجهاز القضائي بأن يفتح الملفات لكلا الطرفين المتحالفين.
يبدو أنّ معركة إستقلال القضاء كسلطة ثالثة تخلق التوازن بين بقيّة السلطات هي معركة لا تهم القضاة وحدهم كجسم يبحث عن حريّته الوظيفيّة، بل تهمّ كل التونسيين في علاقة بتحقيق العدالة وإزاحة عهود من الظلم والفساد السياسي والمالي، وأولى الملفّات العالقة اليوم هو ملف العدالة الإنتقاليّة التي يفترض أن تنتصب وفق مرجعيّة مجلس أعلى للقضاء يكون مستقلاّ وبعيدا عن السلطة التنفيذيّة التي تحكمها حسابات وتوازنات سياسيّة قد تدفن هذا الملف ليزداد ألم عائلات شهداء الثورة وضحايا الحقبة الديكتاتوريّة، يضاف إلى ذلك حجم الفساد المالي والتهرّب الضريبي الذي تعاني منه البلاد التونسيّة ولم يجد سلطة قضائيّة مستقلة تردعه وتحجّم دوره، فبعض التقديرات العلميّة تتحدث عن 450 مليون دينار حجم الفساد، و27 بالمائة من الشعب التونسي كانوا ضحية الفساد في ظل جهار قضائي عاجز محكوم بسلطة تنفيذية غارقة في الفساد الإداري والمالي.
أمن جمهوري وإعلام حرّ وقضاء مستقل: ثلاثة شروط للخروج من عهد الديكتاتورية نحو عهد الديمقراطيّة، هي ثلاثة شروط وفاء لروح الثورة، وما الإنتخابات إلاّ جزء من هذا الخروج الآمن المدفوع بإرادة سياسيّة قويّة تسعى للتغيير، وفي الواقع مازالت المؤسسة الأمنيّة تعاني قصورا في التطوير والمهنيّة تتجاذبها أطراف نقابيّة وسلطة تنفيذيّة، أما الإعلام فقد عادت الضغوط لتلاحقه وتراقبه في خطّه التحريري وسياساته وهو ما جاء في تقرير مفصّل للنقابة الوطنية للصحفيين، فصارت حريته مهدّدة بالزوال، أما القضاء فنحن أمام مشروع مجلس أعلى للقضاء سيعيدنا إلى "قضاة التعليمات" بوصفه جهازا وسلكا لم يرتق إلى منزلة "السلطة"، وإذا تمّت المصادقة على هذا المشروع بصيغته الحاليّة فستكون الثورة في تونس قد شهدت إنتكاسة كبرى وإغتيالا لبقايا روح ثورة 14 جانفي 2011.
عبيد خليفي
المصدر: جريدة رأي اليوم 15 ماي 2015



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق