الجمعة، 28 مايو 2010

عبيد خليفي: أزمـــة المثقّف التونسي أو المثقّف المــــوظّـــف

-->
هو حوار جرى بيني وبين أستاذ جامعيّ مختصّ في الإعلام جرّني للحديث عن أزمة المثقّف التونسي، كلّ ما في القصّة أنّني تعرّفت على هذا "المثقّف" عبر التواصل الفايسبوكي، وكان ذلك بعد خروجي من السجن في قضية الحركة الاحتجاجيّة بالحوض ألمنجمي، وبعد التعارف في المجال العلمي والحديث عن تخصّصي في المخيال العربي الإسلامي، سألته عن تخصّصه الإعلامي ولماذا لا يتحدث عن واقع الإعلام التونسي وأزمته تحجّج بكونه يدرّس التنظير والنظريات، ثمّ صمت، فغيّرت مجرى الحوار نحو القضايا الاجتماعية والسياسيّة في البلاد وعن دور المثقّف في علاقة بما جرى في الحوض ألمنجمي فأجابني بصفاقة "وماذا فعلتم؟ لا شيء؟ أنتم حرثتم في ألبحر.. أنتم سياسيون تراجيديون؟"
مثل هذا الموقف هو السائد في الغالب عند نخبتنا المثقّفة، التي استهلكتها الجامعة وهي تجترّ دروسا من التنظير الفاشل والاختبار الفاسد للعقل البشري والطلابي، خاصّة وأنّ هذه الجامعة لم تعد تثمر باحثين وعلماء وإنما طلبة ميكانيكيين وباحثين مجرّدين من الهمّ المعرفي والهاجس العلمي وغياب الرؤيا لا يجعلنا ننتظر منهم مشروعا تنويريّا في المستويين ألتنظيري أو التجريبي .
لن أدخل في الإشكال ألمفاهيمي لمصطلح المثقّف، لكنّني أحتاج توسيعا للسياق ألمفاهيمي الواقعي والمرجعي في علاقة بالمشهد السياسي والاجتماعي اليوم لنعتبر المثقفين هم تلك النخبة المتعلّمة المعلّمة التي تمتلك سلطة معرفيّة وثقافيّة تمارس نوعا من الوصاية الأخلاقيّة تجاه شرائح اجتماعيّة مختلفة، ولن نكون أوفياء للتصوّر الغرامشي في تصنيفه للمثقفين الى مثقف تقليدي ومثقف عضوي، وسأتحدّث عن النخبة المثقفة في تونس، والتي هي محلّ تساؤل: هل هذه الشريحة المثقّفة تقوم بدورها التاريخي المنوط بعهدتها؟ وهل أنّ المثقّف التونسي يعي وعيا إشكاليّا بأنّـه جزء من أزمة البلاد؟
يبدو المشهد مائعا ونحن نتحدّث عن استقالة جماعيّة أصابت هذه النخبة المثقّفة وهي تنغمس في ما تسمّيه بالهاجس المعرفي بمعزل عن الواقع الموضوعي الذي تعيشه البلاد، حتى وإن كنّا لا نثق في ما ينتجه هذا الهاجس المعرفي لضعف منزلته أمام ما ينتجه الآخر من كمّ معرفي وقيمي، ويتراءى لنا التقسيم الغرامشي لمفهوم المثقف العضوي والمثقّف التقليدي سلاحا ذو حدّين فهو يوصّف الحالة لكن يزيدها ارتباكا وتوتّرا.
وعليّ هنا أن أستحضر السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو الذي يعتبر علامة ثقافيّة ومعرفيّة نادرة، يكتب بنهم غريب وينزل للشارع في المسيرات والاعتصامات واحدا من المجتمع، وعندما سئل مرّة على التلفزة عن سرّ هذا الحضور استغرب أن يكون الباحث الاجتماعي دارسا لمجتمع هو غريب عنه منعزل عنه عدا عن كون ذلك قناعة ثابتة في ذهنه، وتمتدّ الأسماء نحو ميشال فوكو وهابرماز وناعوم تشومسكي... بل إنّ هناك مدرسة فلسفيّة اليوم تحتقر تهويمات الفلسفة في الفضاء حين لا تنزل للمجتمع فتفعل فيه فعلها تؤسّس مفهوم الإنسان الجديد، هذه المدرسة الفلسفيّة ترى أن لا قيمة للمعرفة إن عزلت عن الديناميكيّة الإجتماعيّة، ولكم غدا أساتذتنا الأجلاء كلاسيكيون وهم يجترّون نصّا مبتذلا معرفيّا وذوقيّا لا علاقة لهم بالمسير والمصير.
بالنظر لحالة المثقّف التونسي نرى أنّ الاستقالة في التعاطي مع الشأن العام يبدو غالبا جدّا، وطبعا هناك فئة لا يستهان بها من المثقّفين عرضت خدماتها الثقافيّة والمعرفيّة للتطويع السياسي لدى السلطة والحزب الحاكم، فاصطفت كأبواق دعاية فجّة تبرّر للأمر الواقع وتشرّعه بل وتنظّر له بحثا عن أسس معرفيّة مسقطة يدخل في باب الانحراف التأويلي، ومن جهة أخرى لدينا فئة محدودة جدّا ممّن عبّر عن رأيه في الواقع السياسي أو الاجتماعي ليجد نفسه معزولا عن السياق الثقافي العام، ولننظر كيف يتعامل المشهد الإعلامي الرسمي مع مثقفين يحظون بالإشادة والتقدير في المحافل العلميّة والثقافيّة الدوليّة منهم الأساتذة الأجلاء: محمد الطالبي، هشام جعيط، عبدالمجيد الشرفي.... وغيرهم من المثقفين الحقيقيين للبلاد في المجال العلمي أو الثقافي، لأسأل أيضا كم مرّة شاهدنا على تلفزتنا الوطنية عبد الجبار العش ، أو عبد الجبار المدوري، أو الشاعر الصغير أولاد أحمد، أو مسرحيون من طينة الجعايبي وجليلة بكار.. ألأنهم شذّوا عن المقاس كان مصيرهم التجاهل والنكران؟ بل إنّنا نذهب أكثر من ذلك حين نرى أنّ التعامل الشاذ مع شريحة هامّة من المثقّفين في البلاد تحكمه هذه الهوامش البراغماتيّة، و ليس جديدا على السلطة أن تكون إستراتيجيتها مع المثقفين قائمة على ثنائيّة الاستيعاب والتوظيف أو الإقصاء والتهميش، وينقلب الوضع في بلاد العالم الثالث كيف يسيطر السياسي على الثقافي ويطوّعه تطويعا وظيفيّا، بدل أن يكون السياسي ثمرة وعي ثقافي حاد.
وأستحضر هنا قصّة أخرى تعبّر عن منزلقات المثقّف الهش في واقعنا السياسي الرّاهن، يوما ما درسنا في الجامعة ونحن نفور تألقا معرفيّا وثوريّا إشكاليّة المثقّف والسلطان في الحضارة العربيّة الإسلامية، وقد اختار الأستاذ نموذج ابن حنبل ومحنته مع الخليفة وقد وقف في وجهه عنيدا متحدّيا بطش السلطان مدافعا عن قناعاته الفكريّة، وكان الأستاذ يدافع عن هذا المثقف الثوري النموذج، ولكن بمجرّد أن منح منصبا إداريّا رفيعا استبدل نموذج ابن حنبل بنموذج التوحيدي وأخذ يشرّع لمفهوم الإصلاح من داخــل المنظومة السياسيّة.. هكذا يتمّ تطويع الثقافي للسياسي بطريقة دوغمائية مغلّفة بالذّاتيات، ويصبح الدّفاع عن المنظومة الفاسدة مبرّرا بحكم انتمائنا لها وقد ابتلعتنا ويتحوّل المثقّف إلى موظّف.
هل نطرح الجواب السهل الذي لطالما تكثّف في أذهاننا ونقول: إنّ أزمة البلاد تختزلها أزمة مثقفينا، يطرح هذا السؤال العاجل على مثقفينا بحكم المسؤولية العلميّة والأخلاقيّة، هم بالكاد يكونون جزءا من المشكلة، مادمنا نتحدّث عن المأزق السياسي والمعرفي والقيميّ الذي تعيشه البلاد طوال عقود.
وعليّ هنا أيضا أن أستحضر المقولة الديغوليّة حين يقول" هناك مثقّفون غير سياسييّن وسياسيّون غير مثقّفين" وهي قولة تبدو معبّرة عن واقع الحال في تونس، واللحظة التاريخيّة الفارقة تلك التي يتحمّلها المثقفون ليلعبوا دورا سياسيّا تقدّميّا بحكم ثقافتهم العضويّة، فهل أنّني أشترط أن يكون المثقّف سياسيّا والعكس صحيح؟ يبدو ذلك تطرّفا إجرائيّا ونحن نجيب عن هذا السؤال، أعتقد أنّ التلازم بين السياسي والثقافي التنويري تلازم عضوي يعبّر عن ديناميكيّة مجتمعيّة متطوّرة تعبّر عن رقيّ قيمي وهي ترتقي بالواقع السياسي والمعرفي للبلاد، ومن جهة أخرى نحتاج أن نتحوّل من مفهوم السيطرة نحو مفهوم التسيير، وأن لا نضع المثقّف بين خيارين إمّا الولاء الآلي أو الإقصاء الإرادي، وتلك مفارقة لا يمكن أن ترتقي بالمشهد المجتمعي في تونس ونحن في عالم رهين لما يثمره العقل البشري معرفيّا وثقافيّا.
عبيد خليفي
الطريق الجديد عدد182

الأحد، 23 مايو 2010

النقابات الفرنسيّة في الحوض ألمنجمي عنوان للتضامن والتعاون






النقابات الفرنسيّة في الحوض ألمنجمي

عنوان للتضامن والتعاون

قام وفد نقابي فرنسي بزيارة تضامنيّة لمدينة الرديف يوم 18ماي الجاري وقد تكوّن الوفد من خمسة نقابيين يمثلون مختلف التنظيمات النقابية الفرنسيّة وهم: فيليب ريو عن الكنفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل، وميشال ديبون دي بورغارد عن الفدرالية النقابية العامة للتعليم، وألآن بارون عن منظمة نقابيون متضامنون، وكورين فيال عن الفدرالية النقابية المتحدة، وجون فرانسو كوربو عن النقابة العامة للشغل، يصاحبهم الأستاذ العميد عبد الستار بن موسى، والأستاذ كمال الشريف للتعبير عن مساندتهم لأهالي الحوض ألمنجمي.

وقد حلّ الوفد النقابي بمدينة قفصة مساء الاثنين 17ماي حيث كان لهم لقاء مع الوجوه النقابية بالجهة للتعرّف على الوضع النقابي في جهة قفصة وظروفه ومشاكله، وقد كان الحوار بناء في كيفيّة التعاون بين النقابات الفرنسية والنقابات التونسيّة على مستوى الجهات وجرى نقاش مطوّل حول تاريخ الحركة النقابية في تونس وخاصة جهة قفصة كمدرسة أنجبت مناضلين لهم اشعاع نقابي دولي، ويذكر أنّ الوفد النقابي قد تقدّم بطلب رسمي لإجراء حوار مع المكتب التنفيذي للإتحاد الجهوي بقفصة حول ملف الحوض المنجمي وسبل التعاون النقابي بين الضفتين، لكنّ طلبهم قوبل بالرفض دون إعطاء تبرير لذلك.

هذا وقد حلّ الوفد النقابي الفرنسي بالمحكمة الاستئنافية بقفصة صبيحة الثلاثاء 18 ماي لحضور جلسة الصحفي الفاهم بوكدّوس المحكوم بأربع سنوات سجن على خلفية تغطيته للحركة الاحتجاجيّة بالحوض المنجمي، وقد عبّروا عن مساندتهم لقضية الفاهم بوكدوس وطالبوا بوقف نزيف المحاكمات الجائرة.

استقبال كبير للوفد النقابي الفرنسي في الرديف

لدى حلول الوفد النقابي الفرنسي بالرديف كان الاتحاد المحلي للشغل يعج بالمستقبلين من نقابيين ومساجين والناشطين الذين رحّبوا بالضيوف مكبرين مجهودهم في مساندة سجناء الحوض المنجمي وعائلاتهم، وكان للوفد جلسة عامة مع المواطنين والنقابيين والمساجين، وقد تولّى المناضل عدنان حاجي الترحيب بالضيوف وتقديم بسطة عامة عن الظروف البائسة التي تعيشها مدينة الرديف بعد سنتين على اندلاع الحركة الاحتجاجية في الحوض المنجمي والتي جاء الفيضان ليزيد من معاناتها، وقد تداول على الكلمة كل أفراد الوفد ليقدّموا للحضور الأسباب التي جعلت مختلف النقابات الفرنسيّة تساند تحرّكات الحوض المنجمي، ثم وقوفهم الى جانب المساجين أثناء محنتهم إيمانا منهم بمشروعية الحركة وعدالة مطالبها.

وقد أكّد السيد آلان بارون " أنّ حملة المساندة النقابيّة ستتواصل ما دام المساجين يعانون من البطالة ولم يستعيدوا بعد وظائفهم في غياب عفو عام وبقائهم تحت طائلة السراح الشرطي، وأنّ التضامن سيتواصل مع الحوض المنجمي حتى يتمّ الإفراج عن حسن بنعبداللة وبقية السجناء الآخرين"، من جانبه تحدّث كوربو عن الوضع البيئي والصحي والتنموي بالرديف حين قال: إنّ المشهد يوحي بالبؤس والفقر لمدينة تنام على ثروة الفسفاط رأيت ما يؤلم من الفقر وبنية تحتيّة معدمة"، وأضاف "أنّ العمل النقابي يلزمنا بالوقوف مع القضايا العادلة خاصّة وأنّ العديد من المساجين الذين أطروا هذه التحرّكات هم نقابيون مشهود لهم بالنزاهة والنضال"

زيارات تضامنية للشهداء والمساجين

وقد أدّى الوفد جملة من الزيارات كانت أوّلها لعائلة الشهيد عبد الخالق عميدي ليطلعوا على الحالة الصحية لوالده الذي أصبح يعاني آثار الصدمة النفسية لموت ابنه بالرصاص وتدهورت صحته بشكل ظاهر ولم يعد قادرا على التحكم في حركات أطرافه ، وكانت للوفد زيارة لعائلة الشهيد الحفناوي مغزاوي وكانت أمه قد توجّهت بنداء عبر صحيفة الطريق الجديد أثناء الزيارة وقالت باكية " لن يذهب دم الحفناوي بلا عقاب.. نريد محاسبة من أطلق على ابني الرصاص، لم يكن ابني مسلّحا.. كان يطلب الخبز والشغل.."، وقد بلغنا من بعض المصادر أن عائلة الحفناوي قد تعرّضت للتهديد والهرسلة بعد الزيارة مباشرة من طرف أحد رؤساء الشعب وأبلغه أنّ معتمد الرديف يطلبه في لقاء خاص.

وقد توجّـه الوفد النقابي رفقة قادة الحركة الاحتجاجية والمحامين في زيارة تضامنيّة إلى منزل السجين المنجمي حسن بنعبد الله وكانت للوفد زيارة وديّة لوالدة حسن بنعبد الله التي كانت تعاني كبرها ووحدتها ومرضها المزمن في غياب ابنها وراء القضبان بحكم جائر كما وصفته هي لمدّة أربع سنوات بتهمة المطالبة بالشغل والخبز بعد دراسته الجامعيّة الناجحة، وقالت بلوعة: "كنت أنتظره عريسا فأمسى سجينا، لا أريد له الشغل، أريد له الحريّة لأراه أمامي، سأموت قبل أن أراه..."

وأقد أقام أهالي الرديف غداء على شرف الوفد النقابي الفرنسي وشرف المحامين الذين عبّر لهم الأهالي في شخص السيد العميد عبد الستار بن موسى عن الامتنان لما قدّموا من مجهود من أجل العدالة ورفع الظلم عن المساجين، وجرى عرض لكل المصاعب التي يعانيها المسرّحون من سجناء الحوض المنجمي في غياب العمل والحصار الأمني والمراقبة المستمرّة والتضييق على حياتهم الخاصة، ثم قام الوفد بزيارة للأماكن التي تضرّرت من جرّاء الفيضان للإطلاع على الوضع الكارثي الذي لم تلغى آثاره حتى الآن.

الوفد النقابي الفرنسي في ساحة محمد علي

رغم رفض المكتب التنفيذي للإتحاد العام التونسي للشغل استقبال الوفد النقابي الفرنسي خلال زيارته لتونس والحوض المنجمي والذي لم نعرف أسبابه، فإنّ النقابتين العامتين للتعليم الأساسي والتعليم الثانوي كان لهما لقاء مع هذا الوفد في مكتب النقابة العامة للتعليم الثانوي بساحة محمد علي، وكان ذلك صبيحة الأربعاء 19 ماي وجرى اللقاء بحضور أغلب أعضاء النقابتين.

كما أجرى الوفد جملة من اللقاءات مع بعض فعاليات المجتمع المدني منها لقاء مع السيدين مسعود الرمضاني وعبد الرحمان الهذيلي من اللجنة الوطنية لمساندة أهالي الحوض المنجمي، وجرى لقاء ثاني مع السيد مختار الطريفي رئيس الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الانسان، ثم مع السيدة سناء بن عاشور رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وقد تناولت اللقاءات الوضع الراهن لمكوّنات المجتمع المدني وما تعانيه من حصار وهرسلة، وعلاقة هذه المكوّنات بالعمل النقابي والاجتماعي.

عبيد خليفي

الاثنين، 3 مايو 2010

عبيد خليفي: درس في الحساب والعتاب



أنا لا أتقن فنون العدّ والأوزان والمقاسات، ولدت فقيرا معدما، فنشأت لا أعرف الحساب، ولا كيف أقدّر المسافات كما النّهايات، نشأت عديما لا يتيما، نشأت عديما لا نديما..تعب معلّمي وهو يلقّنني الأعداد، تعب كثيرا، وربّما ضربني مهدّدا أو صفعني منهكا من ركاكة ذهني وهو لا يدري..

واحد، اثنان، ثلاثة.. وكنت أتوقّف جامدا عند الرقم سبعة، هل كنت أتنبّأ بهذا الرقم المخيف..

تسعة، عشـ...رة، والأصفار إن دخلت على الأرقام كان رعبي ووجعي، عقلي كان صفرا ولا يتحمّل الأصفار والأسفار.. لم تكن المئات والآلاف تعني لي شيئا، الدرهم كما الدينار ما دمت أتحسّس غيابه عن جيبي، وعن جيوب الفقراء من أندادي في حيّنا..

لم يكن أبي يملك ما يخاف عليه منّا ومن الجيران، ولكنّه كان يريد التوسّع في المجال، لم يطمح في سرقة ما ليس له، متران أو ثلاثة يسرقهما من الشّارع لتتّسع الغرفة لكوم العيال.. كبرت.. ليس لي مال أحصيه لأعــدّه، ليست لي أراضي ولا عقارات حتّى أقيسها بالأمتار والهكتارات..

علبة السجائر كانت كافية لتجعلني أشعر بالسعادة مطلقا، وقارورة خمر بائس تفّاحة سرقها آدم من قبل.. وآدم سرق، فكيف يلام لصوصنا بما نهبوا وسرقوا منّي ومنكم.. كبرت وكبر الفقر معي وكنت مطالبا بمعرفة الأعداد والمقاسات لأحصي للسارقين ما سرقوا، وللعصابات أملاكهم وأوطانهم وما نهبوا، كم نهبوا ما أملك... كم سرقوا منّي ما لا أملك..

الوطن من الخيرات يتثاقل كرمّانة ساعة الشّهوة، الوطن صورة أحلم بجنّته وثماره، هذا ليس لك.. ما الذّي كان أو سيكون لك.. لا شيء وأنت تنحت الصّخر لتعبّد طرقاتهم وتطوي جلدك بساطا أحمرا ملكيّا يسير عليه الضيوف والغرباء والجبناء..

إحصي لو استطعت لذلك سبيلا.. إحصي أنت في وطنك عليلا.. آن أوانك كي تتعلّم الحساب وتهجر العتاب.. آن أوانك كي تهجر الحرف نحو الرقم والعدد، هذا زمانهم الذّي لا يعترف بالكلمة الأولى "إقـــــــــــرأ".. إقرأ باسم الذي جمع مالا وعدّده، ومن جيوب الشعب نهبه وغرفه، من دمي نهشه وعفّـره ثمّ أكله وتبزّره..

في الألفيّة الثالثة نحن، ستدرك أن الألفيّة الأولى كانت للأنبياء وحيا مطلقا، وأنّ الألفيّة الثانية كانت للشعراء عشقا مطلقا، وأنّ الألفيّة الثالثة للّصوص الجبناء نهبا مجرّدا.. وستدخل جنّتهم إن رضوا عنك فلا تبتئس منّي وممّا أكتب تهويما خرافيّا..

لأتعلّم العدّ والحساب سأرتدّ بلوحي الى الكتّاب، يعفّرني التراب، وعصا المؤدّب لا تهاب، لم تعد تسلّط على ظهري موجعة، ولكنّها ستطرد الذّباب والذّئـاب والعذاب..

عبيد خليفي