الثلاثاء، 15 مارس 2016

بن قردان: عودة الجهاديين إلى تونس


إنّ ما حدث في مدينة بن قردان التونسيّة هو معركة عسكريّة بإمتياز وليست عمليّة إنتحارية معزولة في الزمان والمكان أو هجوم خاطف على هدف عسكري وأمني، وهو ما يعبّر عن تحوّل نوعي في شكل المواجهة بين التنظيمات الجهاديّة والدولة التونسيّة، ولا شكّ أنّنا نختلف مع بعض الخبراء الذين قلّلوا من المخاطر الإرهابيّة التي يمكن أن تطال تونس لتنحصر في عمليات هجوميّة مباغتة محدودة الهدف، وبعد نجاحات أمنية تحققت في المدة الأخيرة في الكشف عن عدد هام من الخلايا النائمة جعلت هؤلاء الخبراء يعتقدون أن مجاهدي الجبل بدؤوا في التلاشي والإنقراض، تأتي الأحداث المتسارعة لتبيّن مدى حضور الجماعات المسلحة في الجبل والمدن، فقبل ثلاثة أيام كانت سريّة من مسلّحي جبل المغيلة في محافظة سيدي بوزيد متكونة من 40 نفر قد قامت بغزوة إحتطاب لجمع المؤونة والزّاد عائدة للجبل دون مجابهة، وبعدها بيوم واحد كان الهجوم التجريبي الأول على مدينة بن قردان المحاذية للحدود الليبيّة، كل ذلك يجعلنا نؤكّد وجود معسكرات جهاديّة قاعدية في الجبال تمارس الغزو على المدن لتحصيل الزاد والعتاد، كما أنّ عمليات المدن تؤكّد أنّ الخلايا النائمة تمرّست على التخفّي والتواصل في ما بينها، لتمارس التخطيط لعمليات موجعة كما في عملية متحف باردو أو النزل السياحي في سوسة.
يفترض أنّ الهجوم الأخير على مدينة بن قردان كان يهدف إلى فتح باب الإنتصاب وإعلان ولاية إسلامية تتبع تنظيم الدولة الإسلاميّة، وقد ظهر بالمعطيات الأوليّة أنّ أغلب المشاركين في العمليّة هم تونسيون إما عائدون من سوريا والعراق أو مستقرّون في ليبيا منذ 2012، كما أنّ أغلبهم كانوا من مدينة بن قردان ممّن له معرفة بساحة المعركة، ونفترض أنّ غالبيّة المجموعة المهاجمة كانت متخفية في مدينة بن قردان قبل العملية، ولم تأت كلها من ليبيا، بل كانت مهمتها الفتح وإنتظار المدد والإسناد القادم من المعسكرات الليبيّة لإعلان الإمارة، وبالتالي لسنا مع التصوّر الحكومي الذي رأى أنّ الهدف من هجوم كتيبة قوامها 50 مسلّح إقامة إمارة إسلاميّة، فقد كان هدف المجموعة المهاجمة زعزعة المؤسسة الأمنية والعسكريّة وفك الحصار عن الخلايا النائمة المطاردة، وفتح الحدود الليبيّة التونسيّة أمام حركة المسلحين للإلتحاق ببؤرة التوتّر الجديدة مدينة بن قردان وما حولها.
لقد تمّ التخطيط بعناية فائقة لهذا الهجوم عبر ثلاثة محاور رئيسيّة: المحور الأول تمثّل في مهاجمة المقرات الأمنية والعسكريّة والحدودية وشلّ حركتها وتحييدها عن حماية المدينة فكان الهجوم على المقرات بشكل مباشر وعنيف، المحور الثاني تمثّل في الإغتيالات التي طالت عناصر أمنية مكلفة بالأمن ومكافحة الإرهاب، وبالرصد والمتابعة كان المهاجمون على بيّنة من مساكن الأمنيين، والمحور الثالث كان بالسيطرة والإنتشار في وسط المدينة والشوارع الرئيسيّة لبثّ الرعب لدى المواطنين من جهة وإستمالتهم للدولة الإسلامية من جهة ثانية، وهذه المحاور الثلاثة تمّ التخطيط لها على الأرجح في المنطقة الغربية من الأراضي اللّيبيّة حيث تنتصب الحكومة الغير شرعيّة (برلمان طرابلس) بعلاقاتها المتوتّرة مع الحكومة التونسيّة وغياب التنسيق الأمني بينهما، والذي قد يبلغ مرحلة التواطؤ من حكومة طرابلس التي هي بصدد معاقبة الحكومة التونسيّة على تنسيقها مع برلمان طبرق والغرب اللّيبي، غير أنّ هذه الخطة تبدو منقوصة لإستكمال شروط التخطيط والنجاح، فقد كان يفترض أن تكون قوافل المجاهدين مرابطة على الحدود من الجهة اللّيبيّة تنتظر فتح الحدود وتأمين الممرّات من طرف الطليعة المهاجمة مثلما حدث في المشرق العربي (مدينة الرقّة، الرمادي، الموصل، تدمر..)، غير أن ذلك لم يحصل في هجوم بن قردان إمّا لخلل في الإسناد والإلتحاق، وأما لعدم قدرة المجموعة على الصمود وتحرير الممرات الحدوديّة.
لم ينجح المهاجمون في زعزعة المؤسسات الأمنية والعسكرية التونسيّة حين تصدّت لهم بقوّة السلاح والتضامن الشعبي مع القوات العسكريّة، ولم يصمد المهاجمون لأكثر من نصف يوم حين لم تلتحق بهم قوافل المقاتلين من ليبيا، أو حتى من الدّاخل التونسي للخلايا النائمة، ولئن كان المهاجمون لمدينة بن قردان تونسيون، فإنهم مجرّد أوراق لعبت بها أطراف سياسيّة ودول إقليميّة ومتغيرات دوليّة، فهؤلاء المقاتلون هم إرث للثورة التونسيّة وإنحرافاتها الهيكليّة، فالحكّام الجدد لما بعد الثورة التونسيّة كانوا مطالبين بتوفير الشغل والتنمية للشباب التونسي الذي ألهب فتيل الثورة، غير أنّ الحلّ الأمثل كان في تنظيم قوافل المجاهدين المهاجرين نحو سوريا للجهاد كواجب ديني قبل الشغل والكرامة، وقد كانت تونس سبّاقة ومتميّزة في عدد المقاتلين المهاجرين بين كل الجنسيات الأخرى (تقريبا 6 آلاف مقاتل)، ومن عجز عن الإلتحاق بساحات الجهاد السورية العراقيّة (وزارة الداخلية التونسية منعت 10 آلاف مهاجر) إكتفى بالتدريب العسكري في ليبيا والمكوث فيها أو العودة إلى تونس في ما بات يعرف بالخلايا النائمة التي تتحيّن الفرصة لهجوم إنتحاري مباغت أو إنتظار إعلان الإمارة الإسلامية في تونس.
وما يثير الإنتباه أن "تنظيم الدولة الإسلاميّة" لم يسارع إلى تبنّي الهجوم على بن قردان، بل إنّ مواقعه الرّسميّة وصفحاته لم تحتفل بهذا الهجوم، فربّما كان ينتظر أن يتحقّق النجاح الكامل للمخطّط وتنتهي العمليّة بخروج بن قردان عن السيطرة الحكومية التونسيّة، ولكنّ لا يجب أن نُغفل أنّ المقاتلين التونسيون في ليبيا لم يحسموا أمرهم في البيعة بين "تنظيم الدولة الإسلامية" أو المحافظة على بيعة تنظيم أنصار الشريعة لتنظيم القاعدة وعدم الدخول تحت المظلة "الدّاعشيّة"، وفي النظاية سيظل لغز المقاتلين التونسيين في التنظيمات الجهاديّة من حيث العدد والحضور معضلة للدولة التونسيّة في الأفقين القريب والبعيد، فحتى بفشل هذا الهجوم الإرهابي الذي لم يميّز بين العسكريين والمدنيين، فإنّ هؤلاء المقاتلين سيعودون لتونس في عمل إنتحاري مفرد يعبّر عن فشل التجربة في الهجرة والجهاد في سوريا والعراق وليبيا. 
إنّ المشهد في تونس يشبه إلى حد بعيد تجربة الأفغان العرب بعد الإنسحاب الروسي في 1989 وعودة المقاتلين نحو بلدانهم الأصلية وظهور التنظيمات الجهادية المقاتلة في البلدان العربيّة، فليس لتونس من جواب جذري ومقنع لكيفيّة التعامل مع الذين إلتحقوا بالساحة السورية للجهاد، هم شباب تمّ التغرير بهم من طرف الدعاة وحتى من طرف هيئات وشخصيات سياسيّة رسميّة للإلتحاق بقوافل المجاهدين، وحين تغيّرت الموازين يصير المجاهد إرهابيّا، ومن صدّرناهم نحو سوريا مجاهدين عادوا إلينا إرهابيين يكفّرون أصحاب الجذع المشترك للإسلام السياسي حليف الأمس، ومن ثمّ فقد دُفع الشباب التونسي نحو محرقة لا يستطيع الخروج منها، فكلّما إزداد الضغط على الساحة اللّيبيّة بإستهداف معسكرات الجهاديين مع عودة الهدوء إلى سوريا وبداية تحرير المثلث السنّي العراقي من نفوذ الجهاديين، إزداد الخطر على تونس ومن خلفها الجزائر المستهدفة في أمنها وإقتصادها، بل إنّ التوازنات السياسيّة الهشّة في تونس وتعثّر الإنتقال الديمقراطي في ليبيا يجعل منطقة المغرب العربي الأفق المستقبلي للتوتّر الأمني والإنزلاق العسكري، والذين يرون في التدخّل العسكري الغربي حلاّ جذريّا فهم واهمون، لأنّ مثل هذا التدخّل سيشحن الفكر الجهادي بمقولاته الكلاسيكيّة من ضرورة التصدّي للكفّار والصليبيين.
في النهاية هناك ضمانات محدودة ولكنّها فعالة في مجابهة الإرهاب: الضمانة الأولى هي تمرّس المؤسسة العسكرية التونسيّة على المواجهة والقتال، تلك المؤسسة التي لم تجابه مخاطر من هذا النوع بإستثناء مواجهات محدودة في عملية قفصة سنة 1980 وأحداث سليمان سنة 2006، وكان للخمس سنوات من الثورة التونسية دور في الجاهزية المستمرّة للمؤسسة العسكرية حافظت فيها على صلابتها وقدرتها على التحكّم في مجريات الواقع، الضمانة الثانية كانت في القطيعة بين الجماعات المسلحة والحاضنة الشعبيّة، فعندما كان المشهد السياسي غائما تشكّلت هذه الحاضنة الشعبية بدافع الإغراء والترهيب، لكن بعد عدّة عمليات إرهابية ساهمت المؤسسة الأمنية في كشف هذه الصلة وسعت إلى تجفيفها والتضييق عليها.

السبت، 12 مارس 2016

كيف ساهمت تونس في تحرير عبيد أمريكا...

 نظّمت الإيالة التونسية قوانينها الخاصة بتحرير العبيد ومنع تجارة الرقيق، وكان ذلك قبل عشرين عامًا على أوّل إعلان أصدره الزعيم الأمريكي لينكولن سنة 1861، ففي تلك الفترة كان حاكم تونس أحمد باشا باي بمساعدة من وزيره المصلح خير الدين التونسي وبعض علماء الدّين قد سعى بالتدرج وعلى مراحل مُتقاربة في تحرير العبودية ومنع الرقّ في تونس، بداية من الأمر الذي أصدره في سبتمبر 1841 بمنع تجارة العبيد داخل أسواق تونس، بالإضافة إلى هدم كل المحال والدكاكين والأسواق الخاصة بتجارة العبيد، ثُمّ في عام 1842 أصدر مرسومًا ملكيًا يُعتبر بموجبه كل من يولد على أرض المملكة التونسية حُرًا لا يُباع ولا يُشترى.
في عام 1864، وقُبيل انتهاء الحرب الأهلية الأمريكيّة، بعث القنصل الأمريكي في تونس، إلى رئيس المجلس البلدي لمدينة تونس، الجنرال حسين، طالبًا منه إيضاح المنافع الناتجة عن قانون تحرير العبيد التونسي، والجنرال حُسين أيضًا كان واحدًا من رجالات حركة الإصلاح التنويري، التي قادها داخل الحكومة الوزير خير الدين التونسي، بمباركة من أحمد باشا باي، فردّ عليه برسالة وجهها القنصل الأمريكي باري للرئيس أبراهام لينكولن ليستنير بها، فقام الرئيس الأمريكي بترجمتها وطبعها وتوزيعها على نطاق واسع دون تغيير أي حرف فيها، وهي لا تزال في كتيب محفوظة في المتاحف الأمريكيّة، وهذا نصّ الرسالة:

جواب من أمير الأمراء حسين عن مكتوب إليه في العبيد من قنصل جنرال العصبة الأمريكانية بحاضرة تونس المحمية:
الحمد لله وحده، وإليه يرجع الأمر كلّه. إلى موسيو أموس بري قنصل جنرال العصبة الأمريكانية بحاضرة تونس.
أما بعد فإنه شرفني مكتوبكم الذي مضمونه حيث كنتم بأرض كانت الحرية والعبودية بها متجاورتين وناميتين منذ مدة مديدة وصارتا الآن مشتبكتين في حرب شديدة بغاية قهر إحداهما الأخرى، ووجدتم في تاريخ تونس حوادث مهمة متعلقة بهذين المبدأين المتضادين، أردتم أن تعرفوا تأثير العبودية في بلادنا، وهل أعقبت تأسفاً من الأهلين على فقدها أو انشراحاً لذلك فطلبتم منا شرح ذلك وبأن ما أثبتت التجربة أصلحيته هل هو الخدمة الجبرية أي خدمة العبيد بدون إجرام (تجريم) الخدمة الاختيارية بأجر معلوم وأيهما أوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية.
أما الجواب عما وجدتم في تاريخ بلادنا عن تحرير العبيد، ومنعنا الملك الآدمي في المستقبل بعد أن كان مباحاً فسبب ذلك هو أن دولتنا كسائر الدول الإسلامية كما تسمونها دولة تيوكراتيك في المعني أي أحكامها جامعة بين الديانة والسياسة. والشريعة الإسلامية وإن أقرت الملكية (وقلنا أقرت لأن ملك الآدمي متقدم على الشرائع الثلاث، فقد كان حكم السارق في شرع يعقوب اسرائيل الله أن يسترق سنة بدل القطع في الشريعة المحمدية) إنما أباحتها بعد حصول سبب الملك  بشروط وواجبات يعسر القيام بها، فإن منها عدم الإضرار بالملوك حتى جعل الشارع الإضرار موجباً للعتق كما قال: أي مملوك مثل به فهو حر؟ ومع ذلك فلم تزل  الشريعة تؤكد الوصاية بالعبيد حتى كان آخر كلام نبينا صلى الله عليه وسلم الصلاة: "وما ملكت إيمانكم" وكان يقول: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه فوق طاقته" وكان عمر ابن الخطاب الخليفة الثاني يذهب كل يوم إلى الموالي فكل عبد وجده في عمل لا يطيقه وضع عنه منه، وكذلك كان يخرج كل يوم سبت يتفقد الدواب فإذا وجد دابة في عمل شاق خفف عنها.
ثم أن من القواعد الشرعية تشوف الشارع إلى الحرية حتى أن من أعتق جزء عبد لزمه عتق باقيه. وكان من مصارف الزكاة المحصورة في الأصناف الثمانية بنص القرآن الكريم فك الرقاب قالوا بأن يشترى من مال الزكاة عبيد فيعتقون. كما أن من لزمته كفارة يمين أو قتل أو فطر أو ظِهار فله التكفير بعتق رقبة.
فلولا أن تحرير العبيد من المصالح المهمة لما ضيقت الشريعة به على الفقراء والمساكين. ومن آثار التشوف المذكور كثرة ترغيب الشارع في العتق كقوله: أيما أمرىء مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار.  وتلك الشروط والواجبات حيث كان القيام بها عسيراً في زمن عنفوان شباب الدين فما ظنك به في زمن هرمه لا سيما صنف السودان المباينين للبيض في الطبيعة الغريزية، فكثيراً ما يقـــع بين العبيد ومواليهم المشاجرة التي لا منشأ لها إلا التنافر الطبيعي، وذلك مما يفضي إلى مزيد الإضرار بالعبيـــد، وتجاوز الحدود الشرعية في حقهم. ولم يزل ذلك الأمر يتزايد حتى اقتضى نظر الدولة تحجير الاسترقاق من أصله لأنه لما تعذر الرفق بهم والإحسان إليهم على الوجه المطلوب شرعاً لم يبق إلا الأمر ببيعها أو بعتقها. والأول لا يحصل به الغرض المقصود لما فيه من التسلسل وعود الضرر مع المشتري فتعين الوجه الثاني.
ومن ذلك الوقت بطلت ملكية العبيد عندنا دفعة، وذلك في شهر المحرم سنة 1262 في مدة المرحوم المشير أحمد باشا باي. وأول ما خاطب به المجلس الشرعي في هذا الشأن قوله: "أما بعد فقد ثبت عندنا ثبوتاً لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هؤلاء المماليك السودان، ولذلك اقتضى نظرنا والحالة هذه رفقاً بأولئك المساكين أن نمنع الناس من هذا المبـــــاح، وعندنا في ذلك مصالح سياسية إلخ"، والمصالح المشار لها هنا يمكن شرحها بأمور كثيرة منها مما يقوله أهل الاقتصاد السياسي في أيامنا أن البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها بالاستقراء. وقد رأيت خطبة لبعض الأفاضل من أهل القلم بمملكتنا كتبها في ذلك الوقت يحث بها أهل المملكة على إجابة رئيس الدولة بالقلب والقالب يقول فيها: "فيا للنفوس الزكية، والقلوب التي بالشفقة حرية، شرعكم متشوف للحرية، ورق الآدمي بلية، والرب يقدر على عكس القضية".
وأما الجواب عن تأثير العبودية وما أعقب فقدها في الأهلين فهو أن ملك الآدمي لما لم يكن من الأمور الضرورية ولا الحاجية في المعيشة لم يصعب العدول عنه، ولا تجزع لفقده نفوس أهل مملكتنا. وكيف يتأسف المعتني بشؤون الترف والكمال في الأحوال والعوائد على تحرير عبده وهو قادر على استرقاق الأحرار بالدراهم والدينار؟ مع اعتقادهم الديني أنهم ينالون بعتق عبيدهم ثواباً من الله في الدار الآخرة. على أن ذلك وإن يصعب في أول الأمر على بعض من الناس لرؤيتهم استخدام العبيد بدون أجر أيسر لهم وأربح من استخدام غيرهم بأجر لشح نفوسهم بالعتق إيثاراً للعاجل على الآجل، إلا أن هؤلاء تسلوا من قريب لما أثبتت لهم التجربة أصلحية الخدمة الاختيارية دون الجبرية كما أثبتها العقل أيضاً.
ورأى من عجز عن استخدام الحر بالأجر ممن كانوا يستخدمون العبيد رجوعه إلى الأمر الطبيعي والسيرة المستحسنة، وهو أن يباشر الإنسان قضاء أوطاره اللازمة بنفسه ويقلل احتياجه إلى أبناء جنسه، فإن النفس إذا تعودت استخدام الغير قد يفضي بها ذلك إلى العجز عن أدنى الضروريات، والإنسان إبن عوائده ومألوفاته لا إبن طبيعته ومزاجه، وبذلك التعود تكثر شروط استمرار حياته، وما كثرت شروطه عز وجوده. وبالجملة فالناس في باب الخدمة على أربعة أصناف:
ـ إنسان يخدم نفسه بنفسه، ولاشك أن هذا يعمل ما يستطيعه في يومه ويجهد نفسه.
ـ الثاني يؤاجر نفسه لغيره طوعاً، وهذا دون الأول في نتيجة العمل حيث لا يجهد نفسه .
ـ الثالث يعمل لغيره بلا أجر، وهو مجبور، فذلك هو العبد المملوك. ولا غرو أن تكون نتيجة عمله الثاني بمراحل.
ـ الرابع الذي لا يعمل لنفسه ولا لغيره، هو العبد البطال الذي يبغضه الله تعالى. ومن هذا الصنف الأخير الناس الذين يترفعون عن خدمة أنفسهم وقضاء أوطارهم استنكافاً عن مزاحمة العبيد في أشغالهم.
وقد ينفع في هذا القسم العلاج إذا رأوا من كان أرفع منهم يتعاطى تلك الأشغال التي أنكروا مباشرتها. وأيضاً ربما نفع هذا التعاضد الكسالى إذا رأوا مع ذلك التفاتاً وترغيباً وترهيباً من رعاتهم إذ لا يجدون محيصاً عن المسير اقتداءً بمن سار. والإنسان أقرب إلى خلال الخير منه إلى خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوة الحيوانية المركبة فيه. وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، فإذا وجد طبيباً ماهراً وداوى ما طرأ عليه من المرض فإنه يرجعه إلى أحسن تقويم، وتجتمع الأيدي ويكثر التعاون وتتوفر بذلك أسباب العمران. ومن هذا يتبين لكم السر في كون البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، ولا سبب لذلك إلا كون نتيجة فعل الإنسان المختار أربح وأبرك من نتيجة فعل العبد المجبور.
وعندي أن عموم الحرية وانتفاء الملكية كما يؤثر في نمو العمران يؤثر أيضاً في تهذيب خلق الإنسان. أما تأثيره في نمو العمران فظاهر إذ لا عمران إلا بعدل، والحرية نتيجة العدل. فإذا انعدمت جاء الظلم المِؤذن بخراب العمران، ونقصه بنقصها. وأما تـأثيره في تهذيب الإنسان فإن تعميم الحرية تبعده عن الأخلاق الردية من الشراسة والتكبر والتجبر ونحوها التي لا تنفك في الغالب عمن يملك العديد لما تعودوا به من الإمرة والترفع، وربما رأيتهم ينظرون الناس بالعين التي ينظرون بها عبيدهم لا سيما إذا رأوا إنسانا أسود، فما يرونه إلا كسائر الحيوانات العجم.
وكنت حضرت مرة في أيام الكرنفال سنة 1856 بالأوبرا الكبيرة بباريس ومعي غلام أسود، فما راعني إلا أن رأيت رجلاً أمريكانياً وثب عليه وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخد ثيابه قائلاً ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتين: ما يفعل هذا العبد السوداني بصالون نحن فيه؟ ومتى مكن العبيد من مجالسة الأسياد. فأخذت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول، ولا علم لماذا يجـــول ذلك الرجل ويصول، فدنوت منهما وقلت للرجل: يا حبيبي هون على نفسك، فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند! وبينما هما كذلك إذ وافاهما أحد حفظة المحل وعرفه بأنه لا فرق في حكمهـــم بين الجلود الا بالجودة وإتقان الدبغ. فالحاصل أن ذلك الأسود المسكين لم تخلصه من أظافر ذلك الرجل محرمته البيضاء ولا قوانتواته (قفازاته) الصفراء، وإنما خلصه بياض الحق وعدل الحرية. وبالجملة فالأوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية هو عدم الملكية، ولا التفات لما عسى أن يستند إليه المخالف من أن بعض العبيد ندموا على خروجهم من بيوت أسيادهم وطلبوا الرجوع إليها على شروط العبودية، إذ: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد/ وينكر الفم طعم الماء من سقم
على أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين خرجوا جافلين كما تخرج الدواب إذا فلتت من مرابطها قبل الاستعداد إلى لوازم المعيشة والحرية. أما الآن، بعد الاستعداد، فهل ترى لهم أدنى ميل إلى العبودية؟ ندع هذا الاعتراض الساقط ونرجع إلى ما هو أهم منه فنقول: أنتم أيتها الأمة الأمريكانية إخوان الأمة التي قال فيها عمرو بن العاص صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخبرهـم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك. ولا عمري لأنتم كما قال أمنع الناس من ظلم الملوك حيث أنعم الله عليكم بتمام الحرية في أنفسكم، وجعل سائر أموركم السياسية والمدنية بأيديكم. والبعض من غيركم يقنع بالحقوق المدنية لحماية النفس والعرض والمال فلا يجدها! فما ضركم لو تفضلتم على عبيدكم بما لا يؤثروا هنا شوكتكم؟
شكراً لربكم على ما خولكم من تلك النعم الجليلة، ثم أنتم من التمدن والحضارة بمراحل عن أن تقتدوا بمن يدورون وعيونهم مكنبلة (كذا) على دائرة! "إنا وجدنا آباءنا على أمة" واعلموا أن الشفقة والحنانة البشرية تدعوكم لأن تنبذوا من حريتكم الزيادات التي تسوءها وتكدرها وتلقوا بها البشر على شفاه أولئك العبيد المساكين، والله يحب من عباده الرحماء فارحموا من في الأرض يرحكم من في السماء. هذا وأرجوكم أيها القنصل الجنرال أن تعتقدوا غاية تكدرنا من حروبكم هذه الواقعة بينكم توجعاً على النوع الإنساني وغاية شفقتنا على أولائك العبيد المساكين كما أرجوكم أن تعتقدوا خلوص مودتي لكم  .

كتبه بيده الفانية، الفقير إلى ربه تعالى أمير الأمراء حسين رئيس المجلس البلدي في أواخر جمادى الأولى سنة 1281 هجرية الموافق لأواخر أكتوبر سنة 1864 مسيحية".