الثلاثاء، 30 يونيو 2015

عبيد خليفي: الذئاب المنفردة تنهش تونس مجدّدا




بعد عمليّة متحف باردو الأثري بتونس عشيّة 18 مارس 2015 والتي راح ضحيّتها 23 قتيل و50 جريح جلّهم من السياح الأجانب، تأتي عمليّة شاطئ القنطاوي- سوسة عشيّة 26 جوان 2015 ليذهب ضحيّتها 38 قتيل وقرابة 36 جريح من السياح الأجانب أيضا، ويبدو أنّ سياق العمليتين متشابهين في التخطيط والتنفيذ ضمن ما يمكن تسميته بعمليات "الذئاب المنفردة" التي تقف خلفها خلايا محدودة العدد في التخطيط والتنفيذ، لكن السياق العام لعمليّة شاطئ القنطاوي يمثّل ضربة موجعة للإقتصاد التونسي في ركيزته السياحيّة، وحيرة إزاء القدرات الأمنية والإستخباراتيّة في التصدّي لظاهرة الإرهاب في تونس، وتزداد مصاعب الحكومة التونسيّة إزاء وضع إقتصادي هش أنهكه عدم الإنسجام بين المطالب الإجتماعيّة والحلول الحكوميّة.
إنّ التنفيذ المباشر لعمليّة شاطئ القنطاوي كانت مقصورة على فرد واحد هو سيف الدّين الرزقي (طالب جامعي: لا سوابق له وليس محل شبهة في علاقة بالتنظيمات السلفيّة)، وهذا لا ينفي وجود شركاء في العملية قد لا يتجاوز عددهم الخمسة من عناصر الرصد والمتابعة والإمداد كما في تقاليد العمليات الإرهابيّة للخلايا المعزولة تنظيميّا، وهو تكتيك إتبعه تنظيم أنصار الشريعة في تشكيل الخلايا الجهادية، وهذا الفرد الواحد ينفّذ العمليّة بمعطى العمل الإنتحاري أو ما يسمّى في الأدبيات الجهاديّة "الذئب الإنغماسي"، وهو الذي ينفّذ العمليّة دون التفكير في الهروب والفرار، ولذلك إستسلم سيف الدّين الرزقي لرصاص قوات الأمن التونسي بمجرّد "نجاحه" في قتل عدد كبير من السيّاح، وتشير المعطيات إلى أن المهاجم على دراية مفصّلة بمسرح العملية حيث كان تنقله هادئا ومدروسا، ويبدو أنّ عمليّة شاطئ القنطاوي كما عمليّة متحف باردو الأثري نفّذتها خلايا نائمة ليس لها أية إرتباطات تنظيمية قطرية أو إقليمية أو دولية، وإن كان تنظيم الدولة الإسلاميّة قد تبنّى العمليّة في بيان مرفوق بصورة المهاجم يتوسّط رشّاشتين، فإنّ الإرتباط بين الخلايا والتنظيم الأم هو إرتباط عقائدي وفكري بحكم الولاء والبيعة، فالإجتهاد والتنفيذ من الخليّة، والمباركة والتبنّي من التنظيم.
وفي هذا السياق لا بدّ أن نقرأ عملية تونس بالتزامن مع عمليتي فرنسا والكويت: تأتي هذه العمليات في مناسبة رمزيّة لتنظيم الدولة الإسلاميّة وهي العاشر من رمضان الذكرى الأولى لإعلان قيام الدولة الإسلاميّة وبيعة الخليفة أبي بكر البغدادي، وقد إستعدّ التنظيم لهذه المناسبة بالإعلان عن سيطرته على مدينة كوباني-عين العرب السوريّة وما تمثّله هذه المدينة من ثأر لهزيمة كان التنظيم قد مني بها سابقا، كما أنّ العاشر من رمضان هو تاريخ بداية تداول العملة الماليّة التي صكّها تنظيم الدولة الإسلامية لتكون العملة الرسميّة، وأن يضرب التنظيم في الكويت وتونس وفرنسا فهو يوجّه رسالة قويّة للتحالف الدولي بأن "تمدّده" بلغ القارات الثلاثة: آسيا(الكويت)، أوروبّا(فرنسا)، وإفريقيا(تونس)، ونحن نفترض أن لا وجود لعلاقات تنظيميّة من حيث الإمداد والتخطيط، لكنّ التوجيه فعل ناجز بين الخليفة والدولة نحو كل الخلايا في البلدان، لتصبح للخلايا الإرهابيّة أو ما نسميه "الذئاب المنفردة" الحريّة في المبادرة والتنفيذ.
إنّ الوضع الهش الذي تعيشه التجربة الديمقراطيّة في تونس يجعل من الدولة التونسيّة شبه عاجزة في التصدّي لهذه "الذئاب المنفردة"، فهي خلايا دخلت مرحلة الكمون ممّا يجعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية والإستخباراتيّة أن تحاصرها أو أن تكشفها، والتقاطعات بين تنظيم أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وكتيبة عقبة بن نافع خلق نوعا من الميوعة في ملاحقة شبكات الخلايا النائمة التي تشكّلت في تونس، وهي خلايا تعتمد على عنصر المباغتة وبساطة التخطيط والتنفيذ، يضاف إلى ذلك توزيع العمل القتالي بين الجبل وتخومه ثم التحوّل للمدن، وهو توزيع لا تملك الدولة التونسيّة من الخبرة والقدرة على مجاراته وقراءة أنساقه، فالدولة التونسيّة لا تخوض معاركها مع جبهة معلومة المكان والزمان، كما أنّ الإيقافات القضائيّة لمئات من المتّهمين بالإرهاب لم تعطي الخارطة الواقعيّة لشبكات الإرهاب من حيث التمويل والمخزون البشري أو الحاضنة الشعبيّة.
يبدو أنّ تونس قد دخلت الغابة المتوحّشة التي زُرعت بالذئاب المنفردة، وليست هناك مواجهة مباشرة تحدّد شروط المعركة في زمانها ومكانها، ولكنّ عنصر المباغتة الذي تعتمده الخلايا الإرهابية يجعل هذا الجسد المريض إقتصاديّا وإجتماعيّا وسياسيّا عُرضة للنهش بين الحين والحين في عمليات نوعيّة معزولة، ليقتصر دور الحكومة على قرارات عاجلة وإرتجاليّة تفتقد لعنصر المبادرة وتكتفي بردّة الفعل لتضميد الجراح ومطاردة الأشباح، وهذا ما لمسناه في: موقف رئيس الجمهوريّة التونسي الذي راح يبحث عن شماعة "حملة وينو البترول" لتفسير الهجوم الإرهابي، وموقف رئيس الحكومة الذي أصدر قرارات غير واقعيّة في التعامل مع ظاهرة الإرهاب أهمها الخيار الأمني، وموقف مجلس النواب الذي يستعجل المصادقة على قانون مكافحة الإرهاب وقانون حماية الأمنيين.
كل المؤشرات توحي بأنّ سياسة حكومة الحبيب الصيد تدفع نحو المعالجة الأمنيّة لظاهرة الإرهاب، وهو تمشّي قد يدفع الأطراف السياسية إلى الإختلاف والفرقة حول علاقة المعالجة الأمنية بالإحتجاجات الإجتماعيّة وإمكانيّة التعدّي على حقوق الإنسان، غير أنّ معالجة الإرهاب في ظلّ الوضع الإقليمي الرّاهن يتطلّب الخروج من مرحلة ردّة الفعل إلى المبادرة بتشريك كل الأطراف السياسيّة والنقابيّة في وضع إستراتيجيا شاملة من تحسين الأداء الأمني والإستخباراتي، ومعالجة القضايا الإجتماعيّة العالقة بالتنمية في الجهات التي تزوّد شبكات الإرهاب بالمخزون البشري والحاضنة الشعبيّة، وإيجاد حلول لقطاع التهريب في المناطق الحدوديّة لتحصين الداخل التونسي من الوافد تنظيما وتمويلا، كل ذلك في ظل تشريعات قانونيّة تحترم مكاسب حقوق الإنسان وكرامته.

المصدر: العربي الجديد في 30 يونيو 2015
http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/6/29/%

الجمعة، 5 يونيو 2015

عبيد خليفي: تونس: صاع الثّــروة بمكيال الثّـــورة

شهدت العاصمة التونسيّة عشية 30 مايو 2015 مسيرة حاشدة تحت شعار "وينو البترول" (أين البترول؟)، وكانت هذه المسيرة تتويجا لحملة شبابيّة على وسائل التواصل الإجتماعي للمطالبة بكشف لغز الثروة النفطيّة في تونس من حيث حجمها وريعها، بل تعدّى الأمر إلى ثروات تونس من فسفاط وملح، ومرّة أخرى يجد السياسيون أنفسهم منقادين لثورة شبابيّة رافقتها تحرّكات إحتجاجيّة وإعتصامات في مناطق الحقول النفطيّة جنوبا وشمالا، ووجدت الأطراف السياسية نفسها تعيش حالة من الإرتباك والحرج في إتخاذ موقف واضح من قضيّة الثروة:
·     المؤيّدون: بمكيال الثورة لم تخف بعض الأطراف السياسيّة تأييدها لشعار كشف حجم الثروة النفطيّة وريعها مثل حراك شعب المواطنين وحركة النهضة وحزب المؤتمر والتيّار الديمقراطي والجبهة الشعبيّة، وهذه الأطراف دافعت عن مشروعيّة طرح السؤال لكشف الصندوق الأسود للذهب الأسود، وهي أحزاب متنافرة في توجهاتها السياسيّة، لأنّ مجرّد التنسيق بينها يعطيها سلطة رقابيّة في المجلس النيابي حول ملف الثروات والمناجم.
·     المعارضون: بصاع الثّروة سخرت بعض الأطراف السياسيّة من سؤال "وينو البترول؟" مثل نداء تونس والإتحاد الوطني الحر وآفاق تونس، تساندهم في ذلك منظّمات الأعراف ورجال الأعمال الذين لهم علاقة مباشرة بملف النفط والملح والفسفاط، وقد ذهبت هذه الأطراف إلى نظريّة المؤامرة متّهمة أنصار الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي بإثارة النعرات الجهويّة عبر ملف الثروة النفطيّة والفسفاط والملح.
بعيدا عن الحسابات السياسيّة من بعض الأطراف التي تطالب بفتح ملف الثروات قد كانت في سدّة الحكم ولم تتجرّأ على فتحه، فإنّ من مهام الثورة أن تعالج كل ما يتعلّق بالوطن من عدالة إجتماعيّة مبنيّة على التوزيع العادل للثّروة، فتونس بمجالها الجغرافي المتواضع وعدد سكانها المحدود لها من مقوّمات الثروة ما يعطي للثورة مداها في تحقيق طموحات شعبها الذي قدّم التضحيات في الإستقلال والبناء والقطع مع الدولة الوطنية الفاسدة:
أين البترول؟: في تونس يعجز الخبراء عن تحديد حجم الثروة النفطيّة، لكن ما صرّحت به وزارة الصناعة لا يشفي غليل التونسيين: تنتج تونس قرابة 51 ألف برميل في اليوم لسنة 2015 بعد أن كان الرقم ضعف ذلك سنة 2013، وأن الإستهلاك الداخلي بلغ 92 ألف برميل يوميّا، وقد صرّحت الدولة التونسيّة أنّ المدّخرات النفطيّة تقدّر بـــ 425 مليون برميل، كما يشار إلى أنّ 30 شركة أجنبيّة تتركّز في تونس في مجال التنقيب وإستخراج النفط لها الأولويّة في الإستخراج والرّبح والتسويق، ومع ذلك يبقى الغموض كبيرا في ملف الإنتاج النفطي ليتمتّع هذا الملف بحصانة الحجب المطلق قبل الثورة وبعدها.
ليست المشكلة في هذه الأرقام التي لا يستطيع أحد التثبت منها تأكيدا أو نفيا، ولكنّ المشكلة تفجّرت من خلال تقريرين: التقرير الأول للجنة تقصّي الحقائق التي تشكّلت بعد الثورة برئاسة المرحوم عبد الفتاح بن عمر، والثاني هو التقرير السنوي لدائرة المحاسبات، هذان التقريران كشفا عن تجاوزات وفساد ورشاوي في العقود الممنوحة لشركات التنقيب والإستخراج في مجال النفط، ولم تكن هناك إرادة سياسيّة لمتابعة تلك التجاوزات لا بالمكاشفة ولا بالمحاسبة، كما أنّ مجلة المناجم والطاقة تحتوي على إخلالات مقصودة لتترك الباب مفتوحا للرشاوي والفساد في العقود، يضاف إلى ذلك طبيعة هذه العقود التي تمنح الشركات المنتصبة ربحا يقدّر بــ 50% من المنتوج النفطي بعد خصم تكاليف التنقيب والإستخراج، علما وأنّ هذه الشركات تعمد إلى تضخيم فواتير تكلفة الإنتاج بما يمنحها هامشا كبيرا للنهب والسرقة وليس للدولة التونسيّة الحق في مراجعة تكاليف الإنتاج أو حتى مراقبة كميّة الإنتاج، فقد ذكرت بعض المصادر أن أغلب آبار النفط ليس بها عدّاد الكميّة، والطريف أن إجابة وزير الصناعة حول هذه المسألة كانت "نحن نتعامل مع هذه الشركات بالثقة دون المراقبة".
أين الملح؟: لعلّ ملف الملح الأكثر فضاعة في ما يتعلّق بسيادة الدولة التونسية على ثرواتها، وقد قام الخبير الجبائي لسعد الذوادي وخبير المناجم لزهر السمعلي بإثارة هذا الملف عبر البحث والتنقيب وتحريك المجلس التأسيسي لمراجعة عقود إستغلال الملح، فتونس تحتل المرتبة الثانية عربيّا بعد مصر في إنتاج الملح بـــــكمية 608 ألف طن سنويّا(المسح الجيولوجي البريطاني)، ويخضع إنتاج الملح لفائدة "الشركة العامة للملاحات" (كوتيزال) وهي شركة فرنسيّة تحصّلت على حقوق انتاج الملح وتصديره منذ الحقبة الإستعمارية بالتعاقد مع محمد الأمين باي في 6 أكتوبر 1949، ولا يزال ذلك العقد ساريا حتى اليوم دون تغيير أو تحوير في كلفة الإستغلال والبيع (فرنك للهكتار؟)، وحسب تقديرات الخبراء فإنّ تونس تخسر سنويّا 4000 مليار من المليمات التونسيّة، وهو رقم قادر لوحده على تخفيف حدّة العجز في ميزانية الدولة.
تشير التقارير الإقتصادية إلى أنّ شركة "كوتيزال" للملاحات مملوكة في أغلبها لمستثمرين فرنسيين، وهؤلاء المستثمرون في علاقة مباشرة برجال النفوذ السياسي في الدولة الفرنسيّة منذ الحقبة الإستعماريّة، حتى أنّ المقيم الفرنسي قبل الإستقلال والسفير الفرنسي قبل الثورة (الذي وسّمه الرئيس السابق بن علي) كانا من ذوي الأسهم في هذه الشركة وأعضاء في مجلس إدارتها، وهذا يجعلنا نتساءل عن مفهوم الإستقلال في حد ذاته إذا لم يكن الإستقلال الإقتصادي أحد أهم ركائزه في السيادة الوطنيّة في الثّروة والثورة.
إنّ الشباب الثوري الذي تمّت إزاحته من المشهد السياسي في تونس، وتكالبت عليه قوى الردّة ومراكز نفوذ الدولة العميقة يجد نفسه اليوم ينتقل من معركة الثورة إلى معركة الثّروة، وإن كان السياسيون يجدون حرجا وخوفا ورهبة في ملامسة الملفّات الحارقة والمحرّمة والتي تتعلّق بالسيادة الوطنية في القرار السياسي والإستقلال الإقتصادي، فإنّ الضغط الشعبي قادر على إرغام أصحاب القرار على مصارحتهم والتخلّي عن منطق الوصاية على الوطن والشعب، وتحت ضغط مسيرة اليوم في شارع الحبيب بورقيبة سارع وزير الصناعة التونسي لعقد ندوات صحفية للحديث عن ملف الثروة النفطيّة، كما سارع مجلس النّواب إلى تخصيص يوم دراسي وتشريعي للثروات البتروليّة والمنجميّة، وبدأ التفكير في تشكيل لجنة برلمانيّة أو لجنة خبراء للتحقيق في ملفات الفساد في النفط..
 أين القناصة؟ من قتل شهداء الثورة؟ أين أبناؤنا "الحرّاقة"؟ من قتل شكري؟ أين البترول؟ شعب أنجز ثورة ليفهم، فأزدادت حيرته، وكثرت أسئلته ومخاوفه، فكل ثورة لا تجيب عن هواجس شعبها هي ثورة لم تحقّق أهدافها وأضاعت مساراتها.
المصدر: رأي اليوم 5 جوان 2015
http://www.raialyoum.com/?p=267916


الأربعاء، 3 يونيو 2015

عبيد خليفي: الدولة الإسلاميّة: إستراتيجيا إدارة المدن



إنتظر العالم بأسره ورود صور أو تسجيلات فيديو من مدينة تدمر السوريّة وهي تصوّر عمليّة تدمير الآثار وتفجيرها بعد سقوط المدينة في يد تنظيم الدولة الإسلاميّة، لكن جاءت الأخبار من مدينة تدمر بعد أسبوع من سقوطها في يد تنظيم الدولة الإسلامية عكس ما كان ينتظره العالم والخبراء، فقد إكتفى تنظيم الدولة بتفجير السجن المركزي لمدينة تدمر الشاهد على فضاعات تعذيب النظام السوري وآلام المعتقلين السياسيين، وينوي تنظيم الدولة تفجير فرع الأمن العسكري بتدمر، فتنظيم الدولة الإسلامية سلك مسلكا جديدا في التعاطي مع المدن التي "يفتحها"، وغيّر إستراتيجيته في تطوّر ملحوظ لطريقة إدراته للمدن الخاضعة لسيطرته الميدانيّة.
ذكرت التقارير الواردة من مدينة تدمر أنّ تنظيم الدولة الإسلامية إتخذ جملة من الإجراءات بمجرّد دخوله للمدينة وبسط السيطرة عليها أهمّها:
·       تعهّد بإعادة الكهرباء إلى المدينة والتي كانت مقطوعة عنها منذ كانت تحت سيطرة النظام السوري، وقد أنجز ما تعهّد به في ظرف يوم واحد، ونفس الإجراء كان مع شبكة المياه والتطهير.
·       قام بإصلاح وصيانة المستشفى المحلّي بتدمر الذي كانت طائرات النظام السوري قد قصفته ودمّرت جزءا منه، كما قام تنظيم الدولة بتسليم بعض رواتب موظفي المستشفى.
·       لم يقم بتهديم وتفجير المدينة الأثريّة بل خصّص لها مجموعة من المقاتلين لحراستها وتأمينها من النهب والسرقة، وأعلن التنظيم السماح للأهالي بزيارتها.
·       تجميع الناس في الساحة العامة ليقدّم التنظيم نفسه كحامي للمدينة، وتعهّد بعدم ملاحقة أي مواطن بإستثناء الذين قاتلوا مع النظام السوري أو مع المعارضة الأخرى.
·       دعوة النّاس لممارسة حياتهم الطبيعيّة والعودة لأعمالهم في الزراعة والإدارة تحت رقابة التنظيم.
·       تعيين قاضي شرعي للفصل في الخصومات والنّزاعات بين الأهالي، وإقامة فرع لبيت مال المسلمين.
إنّ هذه الإجراءات التي إتخذها تنظيم الدولة الإسلاميّة تعبّر عن تحوّل تكتيكي في التعامل مع المدن الواقعة تحت السيطرة، ربّما أدرك تنظيم الدولة الإسلاميّة مدى الخسائر التي مني بها في حربه الإعلاميّة بعد سيطرته على الموصل في العراق وعمليّة تدمير متحف الموصل الأثري، تلك الصور القادمة من الموصل جعلت العالم كله يندّد ويتحرّك من أجل التصدّي لمشروع الدولة الإسلامية، والدولة إذا تقرّر تغيير تكتيكها في التعامل مع المدن بعد سقوطها فهي تدرك أن بقاءها وتمدّدها رهين بعمليّة التطبيع التي يمكن أن تحدثها مع الأهالي والسكّان حتى لا يهجروها كما حدث في الرمادي والأنبار، وقد أثبت هذا التكتيك نجاعته في الأراضي السوريّة وفي تلك المدن التي أصبح تنظيم الدولة يديرها محقّقا الأمن والإستقرار لها، فعشرات الفيديوات التي تأتي من المدن السوريّة الواقعة تحت سيطرة الدولة الإسلامية تبرز حسن التسيير والتنظيم للخدمات الأهلية من تأمين حاجيات الناس في الماء والغذاء والنفط والأمن، بل إنّ بعضها يصوّر حياة المسيحيين في ظل الدولة الإسلامية بعد دفع الجزية، وبنفس التكتيك يدير تنظيم الدولة الإسلامية مدينة سرت اللّيبيّة بعد السيطرة عليها في مسعى لكسب "الحاضنة الشعبيّة".
نعتقد أن الشعار الذي رفعته الدولة الإسلاميّة "باقية وتتمدّد"، هو شعار صار واقعا تمتدّ رقعته الجغرافيّة ما بين العراق وسوريا على مساحات شاسعة تحتوي النفط والماء والسلاح، ويراهن التنظيم على الفضاء السنّي في العراق وسوريا بإعتبار أنّ الطرف المعادي قد شكّل تحالفه الطائفي بين النظام العلوي في سوريا وشيعة العراق يساندهما حزب الله اللبناني والنظام الإيراني الذي أصبح يخوض حروبه خارج أراضيه، ويبدو أن القتل المشبع بروح طائفيّة قد أحدث القطيعة التامة في المجتمع العراقي والسوري وليس بالإمكان في المستقبل القريب إعادة ترتيب النسيج المجتمعي للطائفتين، بل إنّ الدولة الإسلاميّة كانت وفيّة لوصايا أبو مصعب الزرقاوي في إحداث القطيعة بين السنّة والشيعة حتى يكون المجال الجغرافي السنّي حاضنة للحركات الجهاديّة في المستقبل البعيد.
نجح تنظيم الدولة الإسلاميّة في تثبيت وجوده في سوريا عبر إنتهاج تكتيك المصالحة مع الأهالي وتأمين معاشهم لتكون الدولة الاسلامية بديلا عن النظام السوري والمعارضة السوريّة، وربّما كانت جبهة النصرة التنظيم المنافس الوحيد لمشروعيّة الدولة الإسلامية، وقد كانت جبهة النصرة سبّاقة في حسن إدارة المدن ولم ترتكب جرائم الإنتقام في كل المدن التي سيطر عليها، ولذلك كانت أقدامها أكثر ثباتا على الأرض واستطاعت تحصين وجودها في تلك المدن، أما تنظيم الدولة فقد أدرك ذلك لاحقا خاصة في تكريت والموصل التي خسر فيهما الحاضنة الأهليّة والشعبيّة وهو ما جعل أهالي الرمادي والأنبار ينزحون ويهربون خوفا من الإنتقام رغم ما لاقوه من قبل من قبل الجيش العراقي الطائفي والمليشيات الشيعيّة، ولعلّه الآن في تدمر المدينة السورية الأثريّة الأكثر شهرة في العالم قد غيّر من تكتيكه لتوطين الدولة الإسلاميّة بسند شعبي وأهلي مثلما الحال غربا مع المدن الليبيّة وخاصة سرت حيث السلاح والنفط.
إنّ السياسات التي ينتهجها تنظيم الدولة الإسلامية مع المدن التي سيطر عليها تخضع لرؤية إستراتيجيّة عميقة، وليست عمليّة إرتجاليّة، سندها في ذلك أدبيات عقائديّة وكتابات تنظيميّة لعلّ أهمّها كتاب "إدارة التوحّش"(2004)، للإسم الحركي أبي بكر ناجي، أو كتاب "المذكّرة الإستراتيجيّة"(2011) للإسم الحركي عبد الله بن محمد، وهذه الأدبيات تعطي شرحا مفصّلا لكيفيّة إدارة المدن وتسيرها بعد فك إرتباطها بالسلطة المركزيّة، فالدولة الإسلامية خرجت من مرحلة جزر السيطرة نحو مرحلة ربط الجزر وتشبيكها لتكون قاعدة صلبة نحو تثبيت أركان الدولة الإسلامية.

المصدر: صحيفة رأي اليوم 3 جوان 2015
http://www.raialyoum.com/?p=266915