الجمعة، 5 يونيو 2015

عبيد خليفي: تونس: صاع الثّــروة بمكيال الثّـــورة

شهدت العاصمة التونسيّة عشية 30 مايو 2015 مسيرة حاشدة تحت شعار "وينو البترول" (أين البترول؟)، وكانت هذه المسيرة تتويجا لحملة شبابيّة على وسائل التواصل الإجتماعي للمطالبة بكشف لغز الثروة النفطيّة في تونس من حيث حجمها وريعها، بل تعدّى الأمر إلى ثروات تونس من فسفاط وملح، ومرّة أخرى يجد السياسيون أنفسهم منقادين لثورة شبابيّة رافقتها تحرّكات إحتجاجيّة وإعتصامات في مناطق الحقول النفطيّة جنوبا وشمالا، ووجدت الأطراف السياسية نفسها تعيش حالة من الإرتباك والحرج في إتخاذ موقف واضح من قضيّة الثروة:
·     المؤيّدون: بمكيال الثورة لم تخف بعض الأطراف السياسيّة تأييدها لشعار كشف حجم الثروة النفطيّة وريعها مثل حراك شعب المواطنين وحركة النهضة وحزب المؤتمر والتيّار الديمقراطي والجبهة الشعبيّة، وهذه الأطراف دافعت عن مشروعيّة طرح السؤال لكشف الصندوق الأسود للذهب الأسود، وهي أحزاب متنافرة في توجهاتها السياسيّة، لأنّ مجرّد التنسيق بينها يعطيها سلطة رقابيّة في المجلس النيابي حول ملف الثروات والمناجم.
·     المعارضون: بصاع الثّروة سخرت بعض الأطراف السياسيّة من سؤال "وينو البترول؟" مثل نداء تونس والإتحاد الوطني الحر وآفاق تونس، تساندهم في ذلك منظّمات الأعراف ورجال الأعمال الذين لهم علاقة مباشرة بملف النفط والملح والفسفاط، وقد ذهبت هذه الأطراف إلى نظريّة المؤامرة متّهمة أنصار الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي بإثارة النعرات الجهويّة عبر ملف الثروة النفطيّة والفسفاط والملح.
بعيدا عن الحسابات السياسيّة من بعض الأطراف التي تطالب بفتح ملف الثروات قد كانت في سدّة الحكم ولم تتجرّأ على فتحه، فإنّ من مهام الثورة أن تعالج كل ما يتعلّق بالوطن من عدالة إجتماعيّة مبنيّة على التوزيع العادل للثّروة، فتونس بمجالها الجغرافي المتواضع وعدد سكانها المحدود لها من مقوّمات الثروة ما يعطي للثورة مداها في تحقيق طموحات شعبها الذي قدّم التضحيات في الإستقلال والبناء والقطع مع الدولة الوطنية الفاسدة:
أين البترول؟: في تونس يعجز الخبراء عن تحديد حجم الثروة النفطيّة، لكن ما صرّحت به وزارة الصناعة لا يشفي غليل التونسيين: تنتج تونس قرابة 51 ألف برميل في اليوم لسنة 2015 بعد أن كان الرقم ضعف ذلك سنة 2013، وأن الإستهلاك الداخلي بلغ 92 ألف برميل يوميّا، وقد صرّحت الدولة التونسيّة أنّ المدّخرات النفطيّة تقدّر بـــ 425 مليون برميل، كما يشار إلى أنّ 30 شركة أجنبيّة تتركّز في تونس في مجال التنقيب وإستخراج النفط لها الأولويّة في الإستخراج والرّبح والتسويق، ومع ذلك يبقى الغموض كبيرا في ملف الإنتاج النفطي ليتمتّع هذا الملف بحصانة الحجب المطلق قبل الثورة وبعدها.
ليست المشكلة في هذه الأرقام التي لا يستطيع أحد التثبت منها تأكيدا أو نفيا، ولكنّ المشكلة تفجّرت من خلال تقريرين: التقرير الأول للجنة تقصّي الحقائق التي تشكّلت بعد الثورة برئاسة المرحوم عبد الفتاح بن عمر، والثاني هو التقرير السنوي لدائرة المحاسبات، هذان التقريران كشفا عن تجاوزات وفساد ورشاوي في العقود الممنوحة لشركات التنقيب والإستخراج في مجال النفط، ولم تكن هناك إرادة سياسيّة لمتابعة تلك التجاوزات لا بالمكاشفة ولا بالمحاسبة، كما أنّ مجلة المناجم والطاقة تحتوي على إخلالات مقصودة لتترك الباب مفتوحا للرشاوي والفساد في العقود، يضاف إلى ذلك طبيعة هذه العقود التي تمنح الشركات المنتصبة ربحا يقدّر بــ 50% من المنتوج النفطي بعد خصم تكاليف التنقيب والإستخراج، علما وأنّ هذه الشركات تعمد إلى تضخيم فواتير تكلفة الإنتاج بما يمنحها هامشا كبيرا للنهب والسرقة وليس للدولة التونسيّة الحق في مراجعة تكاليف الإنتاج أو حتى مراقبة كميّة الإنتاج، فقد ذكرت بعض المصادر أن أغلب آبار النفط ليس بها عدّاد الكميّة، والطريف أن إجابة وزير الصناعة حول هذه المسألة كانت "نحن نتعامل مع هذه الشركات بالثقة دون المراقبة".
أين الملح؟: لعلّ ملف الملح الأكثر فضاعة في ما يتعلّق بسيادة الدولة التونسية على ثرواتها، وقد قام الخبير الجبائي لسعد الذوادي وخبير المناجم لزهر السمعلي بإثارة هذا الملف عبر البحث والتنقيب وتحريك المجلس التأسيسي لمراجعة عقود إستغلال الملح، فتونس تحتل المرتبة الثانية عربيّا بعد مصر في إنتاج الملح بـــــكمية 608 ألف طن سنويّا(المسح الجيولوجي البريطاني)، ويخضع إنتاج الملح لفائدة "الشركة العامة للملاحات" (كوتيزال) وهي شركة فرنسيّة تحصّلت على حقوق انتاج الملح وتصديره منذ الحقبة الإستعمارية بالتعاقد مع محمد الأمين باي في 6 أكتوبر 1949، ولا يزال ذلك العقد ساريا حتى اليوم دون تغيير أو تحوير في كلفة الإستغلال والبيع (فرنك للهكتار؟)، وحسب تقديرات الخبراء فإنّ تونس تخسر سنويّا 4000 مليار من المليمات التونسيّة، وهو رقم قادر لوحده على تخفيف حدّة العجز في ميزانية الدولة.
تشير التقارير الإقتصادية إلى أنّ شركة "كوتيزال" للملاحات مملوكة في أغلبها لمستثمرين فرنسيين، وهؤلاء المستثمرون في علاقة مباشرة برجال النفوذ السياسي في الدولة الفرنسيّة منذ الحقبة الإستعماريّة، حتى أنّ المقيم الفرنسي قبل الإستقلال والسفير الفرنسي قبل الثورة (الذي وسّمه الرئيس السابق بن علي) كانا من ذوي الأسهم في هذه الشركة وأعضاء في مجلس إدارتها، وهذا يجعلنا نتساءل عن مفهوم الإستقلال في حد ذاته إذا لم يكن الإستقلال الإقتصادي أحد أهم ركائزه في السيادة الوطنيّة في الثّروة والثورة.
إنّ الشباب الثوري الذي تمّت إزاحته من المشهد السياسي في تونس، وتكالبت عليه قوى الردّة ومراكز نفوذ الدولة العميقة يجد نفسه اليوم ينتقل من معركة الثورة إلى معركة الثّروة، وإن كان السياسيون يجدون حرجا وخوفا ورهبة في ملامسة الملفّات الحارقة والمحرّمة والتي تتعلّق بالسيادة الوطنية في القرار السياسي والإستقلال الإقتصادي، فإنّ الضغط الشعبي قادر على إرغام أصحاب القرار على مصارحتهم والتخلّي عن منطق الوصاية على الوطن والشعب، وتحت ضغط مسيرة اليوم في شارع الحبيب بورقيبة سارع وزير الصناعة التونسي لعقد ندوات صحفية للحديث عن ملف الثروة النفطيّة، كما سارع مجلس النّواب إلى تخصيص يوم دراسي وتشريعي للثروات البتروليّة والمنجميّة، وبدأ التفكير في تشكيل لجنة برلمانيّة أو لجنة خبراء للتحقيق في ملفات الفساد في النفط..
 أين القناصة؟ من قتل شهداء الثورة؟ أين أبناؤنا "الحرّاقة"؟ من قتل شكري؟ أين البترول؟ شعب أنجز ثورة ليفهم، فأزدادت حيرته، وكثرت أسئلته ومخاوفه، فكل ثورة لا تجيب عن هواجس شعبها هي ثورة لم تحقّق أهدافها وأضاعت مساراتها.
المصدر: رأي اليوم 5 جوان 2015
http://www.raialyoum.com/?p=267916


هناك تعليقان (2):