الخميس، 22 ديسمبر 2016

عبيد خليفي: عودة الجهاديين من بؤر التوتّر: تونس نموذجا

عبيد خليفي: عودة الجهاديين من بؤر التوتّر: تونس نموذجا

تشهد تونس هذه الأيام حالة من التوتّر والإنقسام حول ملف حارق وهو "عودة الجهاديين من بؤر التوتّر إلى تونس"، غير أنّ هذا التوتّر صار تشنّجا مرفوقا بجدل عنيف إن لم نقل هو الجدل العقيم الذي سيقسم التونسيين مرّة أخرى إلى فريقين: فريق يدعو إلى رفض هذه العودة مطلقا، وفريق يطرح مفهوم "التوبة والغفران"، وما بين الفريقين مجال شاسع لإستحضار الفتنة بين التونسيين وتهيئة لظروف الخصام وربّما الإنفصال والصدام، يبدو الملف في حد ذاته خطيرا إذا أدركنا أنّ تداعياته تتجاوز بعده الوطني في علاقة بالترتيبات الإقليميّة والدوليّة وبداية تغيّر الإستراتيجيّة الدوليّة والتطورات الميدانيّة في سوريا والعراق واليمن من جهة، وفي علاقة بالمشروع الجهادي العالمي الذي سطّره كبار منظّري الحركات الجهادية من جهة ثانية.
تتحدّث الأرقام شبه الرّسميّة عن 3 آلاف مقاتل تونسي إلتحقوا بالتنظيمات الجهاديّة في سوريا، مع وجود تقديرات غير رسمية لعدد 5800 جهادي تونسي موزّعين بين مختلف مناطق التوتّر في العالم، كما تفيد بعض المؤشرات بمقتل وأسر قرابة الألف جهادي، وعودة 800 آخرين يخضعون إما للسجن أو المراقبة الأمنية الدّائمة، وهذه الأرقام تجعل من تونس متصدّرة لعقيدة "الهجرة والجهاد"، وهي العقيدة التي وجدت دعما دوليّا وإقليميّا شاملا دون إستثناء إبّان الثورة السورية والمحنة السنيّة في العراق، ولم تكن ليبيا سوى "دار الضيافة" للتدريب والتسفير والعبور، وإزاء هذه المعطيات يدخل ملف الجهاديين العائدين إلى تونس ضمن الترتيبات الجديدة للمشرق إمّا بوضعهم شوكة دائمة في أطراف المجال السوري لتحسين شروط التفاوض مع النظام السوري، أو لإعادتهم نحو أوطانهم والتحضير لنزاع جديد يستهدف مجال جيوسياسي جديد ربّما يكون المغرب العربي وتحديدا الجزائر، وهنا لا بدّ من إستحضار تجربة الأفغان العرب بعد عودتهم من أفغانستان عند الإنسحاب الروسي سنة 1989، حين تجلّى في النقلة النوعيّة لتجربة الجهاد في السعودية ومصر والجزائر واليمن متجلية في فروع تنظيمات جهادية متنوعّة شكّلت في فترة لاحقة فروعا لتنظيم القاعدة في هذه البلدان.
إن الإتهامات المتبادلة بين الأطراف السياسية في تونس حول مرجعية إلتحاق التونسيين بتجربة الجهاد في المشرق تجعل الملف أكثر خطورة من حيث غياب وحدة الموقف في وضع تصوّر شامل وإستراتيجيّة وطنيّة لمعالجة هذا المأزق الذي قد يطوّر الخلاف نحو الصدام، وفي إعتقادنا لا بدّ من تناول هذا الموضوع ضمن المرجعيات المتاحة من حيث المفهوم، ومن حيث المقاربات التشريعية والحقوقية.
إن المصطلح الذي يشاع اليوم والذي جاء على لسان رئيس الجمهورية التونسية هو "توبة المقاتلين وعودتهم"، وهو تصريح إختباري خلق ضجة جعلته يتراجع عن المفهوم ليطرح مسألة المحاسبة والمعاقبة، وفي كلا التصريحين سقط في المحضور السياسي وغابت عنه العقلانية السياسيّة، فليس من الوارد إستحضار مفهوم التوبة بإعتباره مفهوما دينيّا عقائديّا يحدّد العلاقة بين الإنسان وخالقه في تجربة الخطيئة والمغفرة، بل إنّ مفهوم التوبة يتنزّل في السياق الفقهي العقائدي الذي لا يمكن للسياق السياسي أن يستوعبه في وارد الدولة المدنيّة، كما يجب الفصل بين مفهومي عودة المقاتلين ومفهوم المراجعات، فعودة المقاتلين مرتبطة بفشل آني للمشروع الجهادي في سوريا والعراق وليبيا، ويمكن لهذا المشروع أن يستعيد المبادرة كلّما سنحت الفرصة بتغيّر الموازين الإقليميّة والدوليّة، أما مفهوم المراجعات أو ما سمي بترشيد العمل الجهادي فقد إرتبط بتجربتين أثمرت كتابات جدليّة متميّزة أبرزها: مراجعات الجماعة المصرية في سجن العقرب، وصدرت في كتاب تحت عنوان "مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية ونظرة شرعية" في أربعة أجزاء، ومراجعات الجماعة اللّيبيّة المقاتلة أثناء وجودهم في سجن بوسليم بتشجيع من سيف الإسلام القذافي، وصدرت في كتاب عنوانه "دراسات تصحيحيّة في مفهوم الجهاد والحسبة والحكم على النّاس"، وقد تصدّى كبار منظري الحركات الجهاديّة لهذه المراجعات ووسموها بمفهوم "التراجعات" لعلّ أبرزها ردود الدكتور أيمن الظواهري وأبو يحي اللّيبي وأبو مصعب السوري ويوسف العييري...
إنّ تلك المراجعات كانت تحت ضغط السجون والتعذيب، بحثا عن الخلاص، في حين رأت السلطة السياسية المصرية واللّيبيّة خلاصا من المواجهة الدائمة مع الحركات الجهاديّة، فهي أشبه بالهدنة بين الطرفين تكون المراجعات مبرّرا وتسويغا لهذه التهدئة بالمخاتلة بعد أن أنهكتهما المواجهة المسلحة، ولم تكن المراجعات قناعة عقائديّة فكريّة لأن رموزها إنسحبوا من المشهد الحركي أمام أجيال جديدة من منظري الحركات الجهاديّة، وقد إنحصرت هذه المراجعات بين نخبة محدودة ممّن شارك في كتابتها وتحريرها بأدوات لم تقنع عقائديّا، ولم تستطع أن تهدم الأسس العقائدية للصحوة الجهادية في ظل الإستبداد والهزيمة التي تعيشها الأنظمة العربية بتواطؤ غربي، بل إنّ أغلب من تمثّلوا المراجعات العقائديّة في السجون المصرية واللّيبيّة سرعان ما عادوا  وإلتحقوا بالتنظيمات الجهاديّة سواء مع تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلاميّة بعد ثورات الربيع العربي.
إنّ السياق الجيوسياسي للمراجعات وترشيد العمل الجهادي يختلف جذريّا عن مصير الجهاديين العائدين إلى أوطانهم مُحمّلين بالخيبة والفشل بعد تهاوي حلم الدّولة الإسلاميّة في العراق وسوريا، فهؤلاء سيعودون متسلّلين هاربين من بطش السجون وتنكيل الأجهزة الأمنية، أو سيبحثون ملاذ آمن بين ليبيا والجزائر ومالي والنيجر حيث تسهل الحركة وتخفّ الرقابة، ومهما يكن فإنّ عددا لا بأس من الجهاديين يقترب من 560 قد عادوا بالفعل إلى تونس، منهم 260 في السجون والبقية تحت المراقبة الجبريّة، لكن الخطر المحدّق بتونس يتمثّل في إفتقار الأجهزة الأمنية والإستخباراتية لكافة المعطيات عن الجهاديين التونسيين في بؤر التوتّر، ولعلّ عودتهم متسلّلين ستمنحهم حريّة للحركة والفعل بإعتبارهم أشخاصا مجهولين لدى الأجهزة الأمنية، ومن المحال القول بأنهم عادوا "تائبين"، ولكنهم عادوا هاربين يائسين.
وعلينا الإشارة إلى أنّ أكثر الدول المغاربيّة متابعة لموضوع الجهاديين العائدين هي دولة الجزائر، فالنظام الجزائري الذي عانى ويلات العشرية السوداء في التسعينات ظل يتابع مجريات الرّبيع العربي وصعود الحركات الإسلاميّة للسلطة، على الأقل لدى الجارتين المغرب وتونس، ولا يخفي النظام الجزائري تخوّفاته من مؤامرة دوليّة وإقليميّة لتحريك المشهد الجزائري نحو الفوضى الدمويّة كما الحال في ليبيا القريبة وسوريا البعيدة، لذلك حاول النظام الجزائري توجيه الحكّام الجدد في تونس بضرورة مراعاة الخصوصيّة الجزائريّة في التعامل مع الإسلاميين، وظلّ محافظا على علاقات طيبة مع النظام السوري، كما حاول تحقيق تسوية سياسيّة في ليبيا تحت إشرافه، ولذلك لم يكن النظام الجزائري مرتاحا لمفهوم التوبة الذي أطلقه الرئيس التونسي خلال زيارته لأوروبّا، فأسرع بإستدعاء الرئيس التونسي في زيارة قصيرة جعلته يتراجع عن تصريحاته السابقة، إنّ الجزائر تدرك جيّدا أنّ الجهاديين العائدين إلى تونس سيلتحقون مباشرة بالجبال الحدودية بين تونس والجزائر، وهو ما يثير الرعب في إمكانية توظيف هؤلاء المقاتلين في حرب إنهاك وتدمير للقدرات الجزائريّة.
ليس من حقّ أي طرف في تونس أن يرفض عودة الجهاديين إلى تونس، لأنّ الدستور التونسي الذي كتبته الثورة يبدو صريحا في هذه المسألة: "يحجّر سحب الجنسيّة التونسيّة من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن" (الفصل 25، الباب الثاني: الحقوق والحريات)، وهذا الفصل يتمتّع بحصانة تامة عن أي تعديل أو تغير أو إلغاء من خلال الفصل 49 من نفس الباب: "لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدّستور"، فالذين يندفعون مطالبين بنزع الجنسيّة عن الجهاديين ومنعهم من العودة إلى تونس يستخفّون بالدستور كأحد مكاسب الثورة التونسيّة وهم يدعون مباشرة لخرقه ونسف أهم باب في الدستور يتعلّق بالحقوق والحريات، ويبدو أنّ بعض وسائل الإعلام دخلت في حملة تهييج ضد العائدين وتعبئة للرأي العام ممّا قد يسهم في عزلتهم وجعلهم قنابل موقوتة في غياب المعالجة الجديّة للملف.
إنّ حجم الملف يكاد يكون أكبر من قدرات الدولة التونسيّة من حيث المعالجة، فلن يكون السجن والتنكيل بالعائدين حلاّ سحريّا وجذريّا للجهاديين العائدين كما يدعو إلى ذلك بعض الأمنيين والإعلاميين، بل إنّ الهاجس الحقوقي يجب أن يكون حاضرا في كل معالجة ترمي إلى وضع تصوّر شامل بالقياس مع تجارب الدول المتقدّمة في معالجة هذا المشكل، فألمانيا والدنمارك وبعض الدول الأوروبيّة سارعوا لوضع خطة متكاملة في التعامل مع الجهاديين العائدين من زاويتي المحاسبة والتأهيل، علما وأن عدد المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق يتراوح بين 22 ألف و30 ألف جهادي حسب تقديرات الأمم المتحدة خلال خمس سنوات من الحرب السورية في مقابل 5 آلاف جهادي خلال عشرية الحرب الأفغانية ضد الإتحاد السوفياتي، وتضخّم هذا الرقم مع تزايد عدد اللاجئين نحو العالم الغربي يجعل الهاجس الإرهابي كابوسا للعالمين العربي والغربي، وقد سارع الأوروبيون إلى وضع تصوّر لإدماج المهاجرين والتفكير في إصلاح وتأهيل الجهاديين العائدين.
وفق قانون مكافحة الإرهاب في تونس تتراوح أحكام العائدين من بؤر التوتّر  بين 6 سنوات و12 سنة في مؤسسة سجنيّة ما زالت تعاني من التعامل بالأساليب القديمة دون تأهيل أو إصلاح أو تفكير في الإدماج إجتماعيّا، وهو ما يجعل هؤلاء العائدين يحافظون على قناعاتهم الجهاديّة ويسعون لإستقطاب مساجين الحق العام، وهذا ليس بعيد عن تجربة أكثر من 3 آلاف سجين سلفي في عهد نظام زين العابدين بن علي، الذين حافظوا على أفكارهم وعادوا ليشكلوا ما بعد الثورة تنظيم أنصار الشريعة ويلتحقوا بمناطق التوتر في سوريا والعراق وليبيا، ولذلك نعتقد أن التعامل مع ملف الجهاديين العائدين يحتاج إلى بحث وتفكير لوضع تصوّر شامل يجمع بين العقاب والإصلاح، وهو تصوّر يحتاج إلى إمكانيات ماديّة ولوجستيّة كبيرة، وبالقياس للتجارب الغربيّة في هذا الميدان لا بدّ من إشراك ذوي الإختصاص ومؤسسات المجتمع المدني لتكون مساهما ورقيبا تحدّ من سلطة المعالجة الأمنية لهذا الملف.
إنّ ردّة الفعل الأمنية تجاه الجهاديين العائدين قد تساهم في تعقيد الأوضاع وترفع من نسبة خطورتهم في ردّة فعل إنتقاميّة يائسة من غياب فرصة "التوبة"، فالعائد لا يجب أن يعامل على أنه متطرّف بالفطرة، بل وقع التلاعب بعقله وأفكاره فالتحق بالتنظيمات الجهاديّة متشنجا، كما أن هناك من الفتيات ويقدّر عددهن بالعشرات قد هاجرن رفقة أزواجهن مرغمين، والمعالجة المتشدّدة ستزيد من تعقيد الوضع، لذلك يجب معالجة ملف الجهاديين العائدين حالة بحالة، والتفاعل مع المحيط العائلي وأفراد المجتمع من الكلية إلى المسجد إلى مجال العمل إلى أجهزة الأمن، وبالتالي وجب التعامل مع الجهاديين العائدين وفق ثلاثة مسارات متوازية: مسار التأهيل العقائدي لنزع الشرعية عن الأفكار المتطرفة المنحرفة، ومسار التأهيل النفسي للقضاء على روح اليأس وبعث روح التفاؤل بإمكانية تصحيح الذات، وأخيرا مسار التأهيل الإجتماعي الإقتصادي بإدماج العائد في الوسط الإجتماعي وتوفير موطن الشغل ضمن الدورة الإقتصادية الفاعلة.
إنّ التجريم الشامل للجهاديين العائدين من بؤر التوتّر لن يكون حلاّ على المدى البعيد، كما أنّ التساهل معهم يفتح أبواب الجحيم على البلاد التونسيّة، لكن معالجة القضيّة وفق تصوّر شمولي مبني على تفاصيل علميّة لدراسة الحالات الفردية للعائدين يخرج المنظومة الأمنية من سياق ردّة الفعل إلى سياق التوقي من الإرهاب، وهذا المجهود يحتاج إلى إمكانيات تفوق قدرات الدولة التونسية، لذلك وجب عليها أن تستعين بالتجارب الدولية في هذا المجال وأن تطلب المساعدة من الدول الإقليميّة خاصة الجزائر التي تبدو معنية بشكل مباشر بهذا الملف.
نشر المقال بالمركز الديمقراطي العربي بتاريخ 21/12/2016 http://democraticac.de/?p=41456


الثلاثاء، 15 مارس 2016

بن قردان: عودة الجهاديين إلى تونس


إنّ ما حدث في مدينة بن قردان التونسيّة هو معركة عسكريّة بإمتياز وليست عمليّة إنتحارية معزولة في الزمان والمكان أو هجوم خاطف على هدف عسكري وأمني، وهو ما يعبّر عن تحوّل نوعي في شكل المواجهة بين التنظيمات الجهاديّة والدولة التونسيّة، ولا شكّ أنّنا نختلف مع بعض الخبراء الذين قلّلوا من المخاطر الإرهابيّة التي يمكن أن تطال تونس لتنحصر في عمليات هجوميّة مباغتة محدودة الهدف، وبعد نجاحات أمنية تحققت في المدة الأخيرة في الكشف عن عدد هام من الخلايا النائمة جعلت هؤلاء الخبراء يعتقدون أن مجاهدي الجبل بدؤوا في التلاشي والإنقراض، تأتي الأحداث المتسارعة لتبيّن مدى حضور الجماعات المسلحة في الجبل والمدن، فقبل ثلاثة أيام كانت سريّة من مسلّحي جبل المغيلة في محافظة سيدي بوزيد متكونة من 40 نفر قد قامت بغزوة إحتطاب لجمع المؤونة والزّاد عائدة للجبل دون مجابهة، وبعدها بيوم واحد كان الهجوم التجريبي الأول على مدينة بن قردان المحاذية للحدود الليبيّة، كل ذلك يجعلنا نؤكّد وجود معسكرات جهاديّة قاعدية في الجبال تمارس الغزو على المدن لتحصيل الزاد والعتاد، كما أنّ عمليات المدن تؤكّد أنّ الخلايا النائمة تمرّست على التخفّي والتواصل في ما بينها، لتمارس التخطيط لعمليات موجعة كما في عملية متحف باردو أو النزل السياحي في سوسة.
يفترض أنّ الهجوم الأخير على مدينة بن قردان كان يهدف إلى فتح باب الإنتصاب وإعلان ولاية إسلامية تتبع تنظيم الدولة الإسلاميّة، وقد ظهر بالمعطيات الأوليّة أنّ أغلب المشاركين في العمليّة هم تونسيون إما عائدون من سوريا والعراق أو مستقرّون في ليبيا منذ 2012، كما أنّ أغلبهم كانوا من مدينة بن قردان ممّن له معرفة بساحة المعركة، ونفترض أنّ غالبيّة المجموعة المهاجمة كانت متخفية في مدينة بن قردان قبل العملية، ولم تأت كلها من ليبيا، بل كانت مهمتها الفتح وإنتظار المدد والإسناد القادم من المعسكرات الليبيّة لإعلان الإمارة، وبالتالي لسنا مع التصوّر الحكومي الذي رأى أنّ الهدف من هجوم كتيبة قوامها 50 مسلّح إقامة إمارة إسلاميّة، فقد كان هدف المجموعة المهاجمة زعزعة المؤسسة الأمنية والعسكريّة وفك الحصار عن الخلايا النائمة المطاردة، وفتح الحدود الليبيّة التونسيّة أمام حركة المسلحين للإلتحاق ببؤرة التوتّر الجديدة مدينة بن قردان وما حولها.
لقد تمّ التخطيط بعناية فائقة لهذا الهجوم عبر ثلاثة محاور رئيسيّة: المحور الأول تمثّل في مهاجمة المقرات الأمنية والعسكريّة والحدودية وشلّ حركتها وتحييدها عن حماية المدينة فكان الهجوم على المقرات بشكل مباشر وعنيف، المحور الثاني تمثّل في الإغتيالات التي طالت عناصر أمنية مكلفة بالأمن ومكافحة الإرهاب، وبالرصد والمتابعة كان المهاجمون على بيّنة من مساكن الأمنيين، والمحور الثالث كان بالسيطرة والإنتشار في وسط المدينة والشوارع الرئيسيّة لبثّ الرعب لدى المواطنين من جهة وإستمالتهم للدولة الإسلامية من جهة ثانية، وهذه المحاور الثلاثة تمّ التخطيط لها على الأرجح في المنطقة الغربية من الأراضي اللّيبيّة حيث تنتصب الحكومة الغير شرعيّة (برلمان طرابلس) بعلاقاتها المتوتّرة مع الحكومة التونسيّة وغياب التنسيق الأمني بينهما، والذي قد يبلغ مرحلة التواطؤ من حكومة طرابلس التي هي بصدد معاقبة الحكومة التونسيّة على تنسيقها مع برلمان طبرق والغرب اللّيبي، غير أنّ هذه الخطة تبدو منقوصة لإستكمال شروط التخطيط والنجاح، فقد كان يفترض أن تكون قوافل المجاهدين مرابطة على الحدود من الجهة اللّيبيّة تنتظر فتح الحدود وتأمين الممرّات من طرف الطليعة المهاجمة مثلما حدث في المشرق العربي (مدينة الرقّة، الرمادي، الموصل، تدمر..)، غير أن ذلك لم يحصل في هجوم بن قردان إمّا لخلل في الإسناد والإلتحاق، وأما لعدم قدرة المجموعة على الصمود وتحرير الممرات الحدوديّة.
لم ينجح المهاجمون في زعزعة المؤسسات الأمنية والعسكرية التونسيّة حين تصدّت لهم بقوّة السلاح والتضامن الشعبي مع القوات العسكريّة، ولم يصمد المهاجمون لأكثر من نصف يوم حين لم تلتحق بهم قوافل المقاتلين من ليبيا، أو حتى من الدّاخل التونسي للخلايا النائمة، ولئن كان المهاجمون لمدينة بن قردان تونسيون، فإنهم مجرّد أوراق لعبت بها أطراف سياسيّة ودول إقليميّة ومتغيرات دوليّة، فهؤلاء المقاتلون هم إرث للثورة التونسيّة وإنحرافاتها الهيكليّة، فالحكّام الجدد لما بعد الثورة التونسيّة كانوا مطالبين بتوفير الشغل والتنمية للشباب التونسي الذي ألهب فتيل الثورة، غير أنّ الحلّ الأمثل كان في تنظيم قوافل المجاهدين المهاجرين نحو سوريا للجهاد كواجب ديني قبل الشغل والكرامة، وقد كانت تونس سبّاقة ومتميّزة في عدد المقاتلين المهاجرين بين كل الجنسيات الأخرى (تقريبا 6 آلاف مقاتل)، ومن عجز عن الإلتحاق بساحات الجهاد السورية العراقيّة (وزارة الداخلية التونسية منعت 10 آلاف مهاجر) إكتفى بالتدريب العسكري في ليبيا والمكوث فيها أو العودة إلى تونس في ما بات يعرف بالخلايا النائمة التي تتحيّن الفرصة لهجوم إنتحاري مباغت أو إنتظار إعلان الإمارة الإسلامية في تونس.
وما يثير الإنتباه أن "تنظيم الدولة الإسلاميّة" لم يسارع إلى تبنّي الهجوم على بن قردان، بل إنّ مواقعه الرّسميّة وصفحاته لم تحتفل بهذا الهجوم، فربّما كان ينتظر أن يتحقّق النجاح الكامل للمخطّط وتنتهي العمليّة بخروج بن قردان عن السيطرة الحكومية التونسيّة، ولكنّ لا يجب أن نُغفل أنّ المقاتلين التونسيون في ليبيا لم يحسموا أمرهم في البيعة بين "تنظيم الدولة الإسلامية" أو المحافظة على بيعة تنظيم أنصار الشريعة لتنظيم القاعدة وعدم الدخول تحت المظلة "الدّاعشيّة"، وفي النظاية سيظل لغز المقاتلين التونسيين في التنظيمات الجهاديّة من حيث العدد والحضور معضلة للدولة التونسيّة في الأفقين القريب والبعيد، فحتى بفشل هذا الهجوم الإرهابي الذي لم يميّز بين العسكريين والمدنيين، فإنّ هؤلاء المقاتلين سيعودون لتونس في عمل إنتحاري مفرد يعبّر عن فشل التجربة في الهجرة والجهاد في سوريا والعراق وليبيا. 
إنّ المشهد في تونس يشبه إلى حد بعيد تجربة الأفغان العرب بعد الإنسحاب الروسي في 1989 وعودة المقاتلين نحو بلدانهم الأصلية وظهور التنظيمات الجهادية المقاتلة في البلدان العربيّة، فليس لتونس من جواب جذري ومقنع لكيفيّة التعامل مع الذين إلتحقوا بالساحة السورية للجهاد، هم شباب تمّ التغرير بهم من طرف الدعاة وحتى من طرف هيئات وشخصيات سياسيّة رسميّة للإلتحاق بقوافل المجاهدين، وحين تغيّرت الموازين يصير المجاهد إرهابيّا، ومن صدّرناهم نحو سوريا مجاهدين عادوا إلينا إرهابيين يكفّرون أصحاب الجذع المشترك للإسلام السياسي حليف الأمس، ومن ثمّ فقد دُفع الشباب التونسي نحو محرقة لا يستطيع الخروج منها، فكلّما إزداد الضغط على الساحة اللّيبيّة بإستهداف معسكرات الجهاديين مع عودة الهدوء إلى سوريا وبداية تحرير المثلث السنّي العراقي من نفوذ الجهاديين، إزداد الخطر على تونس ومن خلفها الجزائر المستهدفة في أمنها وإقتصادها، بل إنّ التوازنات السياسيّة الهشّة في تونس وتعثّر الإنتقال الديمقراطي في ليبيا يجعل منطقة المغرب العربي الأفق المستقبلي للتوتّر الأمني والإنزلاق العسكري، والذين يرون في التدخّل العسكري الغربي حلاّ جذريّا فهم واهمون، لأنّ مثل هذا التدخّل سيشحن الفكر الجهادي بمقولاته الكلاسيكيّة من ضرورة التصدّي للكفّار والصليبيين.
في النهاية هناك ضمانات محدودة ولكنّها فعالة في مجابهة الإرهاب: الضمانة الأولى هي تمرّس المؤسسة العسكرية التونسيّة على المواجهة والقتال، تلك المؤسسة التي لم تجابه مخاطر من هذا النوع بإستثناء مواجهات محدودة في عملية قفصة سنة 1980 وأحداث سليمان سنة 2006، وكان للخمس سنوات من الثورة التونسية دور في الجاهزية المستمرّة للمؤسسة العسكرية حافظت فيها على صلابتها وقدرتها على التحكّم في مجريات الواقع، الضمانة الثانية كانت في القطيعة بين الجماعات المسلحة والحاضنة الشعبيّة، فعندما كان المشهد السياسي غائما تشكّلت هذه الحاضنة الشعبية بدافع الإغراء والترهيب، لكن بعد عدّة عمليات إرهابية ساهمت المؤسسة الأمنية في كشف هذه الصلة وسعت إلى تجفيفها والتضييق عليها.

السبت، 12 مارس 2016

كيف ساهمت تونس في تحرير عبيد أمريكا...

 نظّمت الإيالة التونسية قوانينها الخاصة بتحرير العبيد ومنع تجارة الرقيق، وكان ذلك قبل عشرين عامًا على أوّل إعلان أصدره الزعيم الأمريكي لينكولن سنة 1861، ففي تلك الفترة كان حاكم تونس أحمد باشا باي بمساعدة من وزيره المصلح خير الدين التونسي وبعض علماء الدّين قد سعى بالتدرج وعلى مراحل مُتقاربة في تحرير العبودية ومنع الرقّ في تونس، بداية من الأمر الذي أصدره في سبتمبر 1841 بمنع تجارة العبيد داخل أسواق تونس، بالإضافة إلى هدم كل المحال والدكاكين والأسواق الخاصة بتجارة العبيد، ثُمّ في عام 1842 أصدر مرسومًا ملكيًا يُعتبر بموجبه كل من يولد على أرض المملكة التونسية حُرًا لا يُباع ولا يُشترى.
في عام 1864، وقُبيل انتهاء الحرب الأهلية الأمريكيّة، بعث القنصل الأمريكي في تونس، إلى رئيس المجلس البلدي لمدينة تونس، الجنرال حسين، طالبًا منه إيضاح المنافع الناتجة عن قانون تحرير العبيد التونسي، والجنرال حُسين أيضًا كان واحدًا من رجالات حركة الإصلاح التنويري، التي قادها داخل الحكومة الوزير خير الدين التونسي، بمباركة من أحمد باشا باي، فردّ عليه برسالة وجهها القنصل الأمريكي باري للرئيس أبراهام لينكولن ليستنير بها، فقام الرئيس الأمريكي بترجمتها وطبعها وتوزيعها على نطاق واسع دون تغيير أي حرف فيها، وهي لا تزال في كتيب محفوظة في المتاحف الأمريكيّة، وهذا نصّ الرسالة:

جواب من أمير الأمراء حسين عن مكتوب إليه في العبيد من قنصل جنرال العصبة الأمريكانية بحاضرة تونس المحمية:
الحمد لله وحده، وإليه يرجع الأمر كلّه. إلى موسيو أموس بري قنصل جنرال العصبة الأمريكانية بحاضرة تونس.
أما بعد فإنه شرفني مكتوبكم الذي مضمونه حيث كنتم بأرض كانت الحرية والعبودية بها متجاورتين وناميتين منذ مدة مديدة وصارتا الآن مشتبكتين في حرب شديدة بغاية قهر إحداهما الأخرى، ووجدتم في تاريخ تونس حوادث مهمة متعلقة بهذين المبدأين المتضادين، أردتم أن تعرفوا تأثير العبودية في بلادنا، وهل أعقبت تأسفاً من الأهلين على فقدها أو انشراحاً لذلك فطلبتم منا شرح ذلك وبأن ما أثبتت التجربة أصلحيته هل هو الخدمة الجبرية أي خدمة العبيد بدون إجرام (تجريم) الخدمة الاختيارية بأجر معلوم وأيهما أوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية.
أما الجواب عما وجدتم في تاريخ بلادنا عن تحرير العبيد، ومنعنا الملك الآدمي في المستقبل بعد أن كان مباحاً فسبب ذلك هو أن دولتنا كسائر الدول الإسلامية كما تسمونها دولة تيوكراتيك في المعني أي أحكامها جامعة بين الديانة والسياسة. والشريعة الإسلامية وإن أقرت الملكية (وقلنا أقرت لأن ملك الآدمي متقدم على الشرائع الثلاث، فقد كان حكم السارق في شرع يعقوب اسرائيل الله أن يسترق سنة بدل القطع في الشريعة المحمدية) إنما أباحتها بعد حصول سبب الملك  بشروط وواجبات يعسر القيام بها، فإن منها عدم الإضرار بالملوك حتى جعل الشارع الإضرار موجباً للعتق كما قال: أي مملوك مثل به فهو حر؟ ومع ذلك فلم تزل  الشريعة تؤكد الوصاية بالعبيد حتى كان آخر كلام نبينا صلى الله عليه وسلم الصلاة: "وما ملكت إيمانكم" وكان يقول: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه فوق طاقته" وكان عمر ابن الخطاب الخليفة الثاني يذهب كل يوم إلى الموالي فكل عبد وجده في عمل لا يطيقه وضع عنه منه، وكذلك كان يخرج كل يوم سبت يتفقد الدواب فإذا وجد دابة في عمل شاق خفف عنها.
ثم أن من القواعد الشرعية تشوف الشارع إلى الحرية حتى أن من أعتق جزء عبد لزمه عتق باقيه. وكان من مصارف الزكاة المحصورة في الأصناف الثمانية بنص القرآن الكريم فك الرقاب قالوا بأن يشترى من مال الزكاة عبيد فيعتقون. كما أن من لزمته كفارة يمين أو قتل أو فطر أو ظِهار فله التكفير بعتق رقبة.
فلولا أن تحرير العبيد من المصالح المهمة لما ضيقت الشريعة به على الفقراء والمساكين. ومن آثار التشوف المذكور كثرة ترغيب الشارع في العتق كقوله: أيما أمرىء مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار.  وتلك الشروط والواجبات حيث كان القيام بها عسيراً في زمن عنفوان شباب الدين فما ظنك به في زمن هرمه لا سيما صنف السودان المباينين للبيض في الطبيعة الغريزية، فكثيراً ما يقـــع بين العبيد ومواليهم المشاجرة التي لا منشأ لها إلا التنافر الطبيعي، وذلك مما يفضي إلى مزيد الإضرار بالعبيـــد، وتجاوز الحدود الشرعية في حقهم. ولم يزل ذلك الأمر يتزايد حتى اقتضى نظر الدولة تحجير الاسترقاق من أصله لأنه لما تعذر الرفق بهم والإحسان إليهم على الوجه المطلوب شرعاً لم يبق إلا الأمر ببيعها أو بعتقها. والأول لا يحصل به الغرض المقصود لما فيه من التسلسل وعود الضرر مع المشتري فتعين الوجه الثاني.
ومن ذلك الوقت بطلت ملكية العبيد عندنا دفعة، وذلك في شهر المحرم سنة 1262 في مدة المرحوم المشير أحمد باشا باي. وأول ما خاطب به المجلس الشرعي في هذا الشأن قوله: "أما بعد فقد ثبت عندنا ثبوتاً لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هؤلاء المماليك السودان، ولذلك اقتضى نظرنا والحالة هذه رفقاً بأولئك المساكين أن نمنع الناس من هذا المبـــــاح، وعندنا في ذلك مصالح سياسية إلخ"، والمصالح المشار لها هنا يمكن شرحها بأمور كثيرة منها مما يقوله أهل الاقتصاد السياسي في أيامنا أن البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها بالاستقراء. وقد رأيت خطبة لبعض الأفاضل من أهل القلم بمملكتنا كتبها في ذلك الوقت يحث بها أهل المملكة على إجابة رئيس الدولة بالقلب والقالب يقول فيها: "فيا للنفوس الزكية، والقلوب التي بالشفقة حرية، شرعكم متشوف للحرية، ورق الآدمي بلية، والرب يقدر على عكس القضية".
وأما الجواب عن تأثير العبودية وما أعقب فقدها في الأهلين فهو أن ملك الآدمي لما لم يكن من الأمور الضرورية ولا الحاجية في المعيشة لم يصعب العدول عنه، ولا تجزع لفقده نفوس أهل مملكتنا. وكيف يتأسف المعتني بشؤون الترف والكمال في الأحوال والعوائد على تحرير عبده وهو قادر على استرقاق الأحرار بالدراهم والدينار؟ مع اعتقادهم الديني أنهم ينالون بعتق عبيدهم ثواباً من الله في الدار الآخرة. على أن ذلك وإن يصعب في أول الأمر على بعض من الناس لرؤيتهم استخدام العبيد بدون أجر أيسر لهم وأربح من استخدام غيرهم بأجر لشح نفوسهم بالعتق إيثاراً للعاجل على الآجل، إلا أن هؤلاء تسلوا من قريب لما أثبتت لهم التجربة أصلحية الخدمة الاختيارية دون الجبرية كما أثبتها العقل أيضاً.
ورأى من عجز عن استخدام الحر بالأجر ممن كانوا يستخدمون العبيد رجوعه إلى الأمر الطبيعي والسيرة المستحسنة، وهو أن يباشر الإنسان قضاء أوطاره اللازمة بنفسه ويقلل احتياجه إلى أبناء جنسه، فإن النفس إذا تعودت استخدام الغير قد يفضي بها ذلك إلى العجز عن أدنى الضروريات، والإنسان إبن عوائده ومألوفاته لا إبن طبيعته ومزاجه، وبذلك التعود تكثر شروط استمرار حياته، وما كثرت شروطه عز وجوده. وبالجملة فالناس في باب الخدمة على أربعة أصناف:
ـ إنسان يخدم نفسه بنفسه، ولاشك أن هذا يعمل ما يستطيعه في يومه ويجهد نفسه.
ـ الثاني يؤاجر نفسه لغيره طوعاً، وهذا دون الأول في نتيجة العمل حيث لا يجهد نفسه .
ـ الثالث يعمل لغيره بلا أجر، وهو مجبور، فذلك هو العبد المملوك. ولا غرو أن تكون نتيجة عمله الثاني بمراحل.
ـ الرابع الذي لا يعمل لنفسه ولا لغيره، هو العبد البطال الذي يبغضه الله تعالى. ومن هذا الصنف الأخير الناس الذين يترفعون عن خدمة أنفسهم وقضاء أوطارهم استنكافاً عن مزاحمة العبيد في أشغالهم.
وقد ينفع في هذا القسم العلاج إذا رأوا من كان أرفع منهم يتعاطى تلك الأشغال التي أنكروا مباشرتها. وأيضاً ربما نفع هذا التعاضد الكسالى إذا رأوا مع ذلك التفاتاً وترغيباً وترهيباً من رعاتهم إذ لا يجدون محيصاً عن المسير اقتداءً بمن سار. والإنسان أقرب إلى خلال الخير منه إلى خلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءه من قبل القوة الحيوانية المركبة فيه. وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، فإذا وجد طبيباً ماهراً وداوى ما طرأ عليه من المرض فإنه يرجعه إلى أحسن تقويم، وتجتمع الأيدي ويكثر التعاون وتتوفر بذلك أسباب العمران. ومن هذا يتبين لكم السر في كون البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمر من غيرها كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، ولا سبب لذلك إلا كون نتيجة فعل الإنسان المختار أربح وأبرك من نتيجة فعل العبد المجبور.
وعندي أن عموم الحرية وانتفاء الملكية كما يؤثر في نمو العمران يؤثر أيضاً في تهذيب خلق الإنسان. أما تأثيره في نمو العمران فظاهر إذ لا عمران إلا بعدل، والحرية نتيجة العدل. فإذا انعدمت جاء الظلم المِؤذن بخراب العمران، ونقصه بنقصها. وأما تـأثيره في تهذيب الإنسان فإن تعميم الحرية تبعده عن الأخلاق الردية من الشراسة والتكبر والتجبر ونحوها التي لا تنفك في الغالب عمن يملك العديد لما تعودوا به من الإمرة والترفع، وربما رأيتهم ينظرون الناس بالعين التي ينظرون بها عبيدهم لا سيما إذا رأوا إنسانا أسود، فما يرونه إلا كسائر الحيوانات العجم.
وكنت حضرت مرة في أيام الكرنفال سنة 1856 بالأوبرا الكبيرة بباريس ومعي غلام أسود، فما راعني إلا أن رأيت رجلاً أمريكانياً وثب عليه وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخد ثيابه قائلاً ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتين: ما يفعل هذا العبد السوداني بصالون نحن فيه؟ ومتى مكن العبيد من مجالسة الأسياد. فأخذت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول، ولا علم لماذا يجـــول ذلك الرجل ويصول، فدنوت منهما وقلت للرجل: يا حبيبي هون على نفسك، فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند! وبينما هما كذلك إذ وافاهما أحد حفظة المحل وعرفه بأنه لا فرق في حكمهـــم بين الجلود الا بالجودة وإتقان الدبغ. فالحاصل أن ذلك الأسود المسكين لم تخلصه من أظافر ذلك الرجل محرمته البيضاء ولا قوانتواته (قفازاته) الصفراء، وإنما خلصه بياض الحق وعدل الحرية. وبالجملة فالأوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية هو عدم الملكية، ولا التفات لما عسى أن يستند إليه المخالف من أن بعض العبيد ندموا على خروجهم من بيوت أسيادهم وطلبوا الرجوع إليها على شروط العبودية، إذ: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد/ وينكر الفم طعم الماء من سقم
على أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين خرجوا جافلين كما تخرج الدواب إذا فلتت من مرابطها قبل الاستعداد إلى لوازم المعيشة والحرية. أما الآن، بعد الاستعداد، فهل ترى لهم أدنى ميل إلى العبودية؟ ندع هذا الاعتراض الساقط ونرجع إلى ما هو أهم منه فنقول: أنتم أيتها الأمة الأمريكانية إخوان الأمة التي قال فيها عمرو بن العاص صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخبرهـم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك. ولا عمري لأنتم كما قال أمنع الناس من ظلم الملوك حيث أنعم الله عليكم بتمام الحرية في أنفسكم، وجعل سائر أموركم السياسية والمدنية بأيديكم. والبعض من غيركم يقنع بالحقوق المدنية لحماية النفس والعرض والمال فلا يجدها! فما ضركم لو تفضلتم على عبيدكم بما لا يؤثروا هنا شوكتكم؟
شكراً لربكم على ما خولكم من تلك النعم الجليلة، ثم أنتم من التمدن والحضارة بمراحل عن أن تقتدوا بمن يدورون وعيونهم مكنبلة (كذا) على دائرة! "إنا وجدنا آباءنا على أمة" واعلموا أن الشفقة والحنانة البشرية تدعوكم لأن تنبذوا من حريتكم الزيادات التي تسوءها وتكدرها وتلقوا بها البشر على شفاه أولئك العبيد المساكين، والله يحب من عباده الرحماء فارحموا من في الأرض يرحكم من في السماء. هذا وأرجوكم أيها القنصل الجنرال أن تعتقدوا غاية تكدرنا من حروبكم هذه الواقعة بينكم توجعاً على النوع الإنساني وغاية شفقتنا على أولائك العبيد المساكين كما أرجوكم أن تعتقدوا خلوص مودتي لكم  .

كتبه بيده الفانية، الفقير إلى ربه تعالى أمير الأمراء حسين رئيس المجلس البلدي في أواخر جمادى الأولى سنة 1281 هجرية الموافق لأواخر أكتوبر سنة 1864 مسيحية".




الاثنين، 25 يناير 2016

عبيد خليفي: تونس، الإحتجاجات الشعبية بين الديناميكية الثورية والإنتكاسات السياسية



لا أحد يستطيع أن يدّعي أن الإحتجاجات الإجتماعية المطلبية التي عرفتها تونس في المدّة الأخيرة  كانت مفاجئة، بل إنّ هذه الإحتجاجات التي إندلعت في محافظة القصرين وعمّت كافة المحافظات الداخلية والساحليّة منها كانت نتيجة طبيعيّة لمسار سياسي أعرج أنتج نسخة مشوّهة لديمقراطيّة عصريّة بين إئتلاف حكومي هجين مسنود بتكتل نيابي كبير من جهة، ومؤسّسة رئاسيّة تعاني العجز والتسلط من جهة ثانية، فما من شكّ أنّ نظام الحكم في تونس يعتمد على نظام برلماني مشوّه، لأنّ رئيس الحكومة الحبيب الصيد إستعاد صورة الوزير الأول كما في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فهو وزير أوّل أو الموظّف السامي الذي يأتمر بتوجيهات قصر قرطاج في توزيع الحقائب الوزارية وتكوين الإئتلاف الحكومي بناء على تفاهمات حصلت بين الشيخين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي منذ ما قبل الإنتخابات.
إستطاعت فورة الإحتجاجات الشعبية خلال أيامها الأولى أن تهزم الماكينة الإعلامية للإئتلاف الحاكم أو وزراءهم المرتبكين في مناصبهم، فعجزت عن تشويهها أو تخوينها، لذلك راحت تعلن صراحة "أنّها تتفهّم هذه الحركات الإحتجاجيّة" معلنة عن إجراءات إقتصادية هشّة لا تحمل حلولا جذريّة لواقع 750 ألف عاطل عن العمل منهم 250 ألف صاحب شهادة جامعية عليا، والواقع يقول أن ميزانية الدولة لسنة 2016 لن تبعث أي أمل لهذا الجيش من المعطّلين مع توقعات بنسبة نمو 2,5% ، وهي نسبة غير قادرة على إمتصاص حتى خريجي الجامعة لنفس السنة، هذا المؤشر الإقتصادي هو إنعكاس لضبابية المشهد السياسي في تونس، فهو العجز التام للحزب الأغلبي "نداء تونس" الذي يعاني الإنقسامات الدّاخلية جرّاء مسألة التوريث التي سقط فيها رئيس الحزب الباجي قايد السبسي بعد دخوله قصر قرطاج، وهو التحيّن والتحيّل للحزب الثاني حركة النهضة في الدفاع عن توجهات الحكومة حفاظا على مظلّة السلامة والتمكّن من أجهزة الحكم في ظل ظروف إقليمية معادية لهذا الوفاق الحزبي بين شريكي الحكم في تونس.
مع تطوّر المشهد الإحتجاجي في تونس الذي قاده جيش المعطّلين حدث تحوّل غريب في المشهد الإحتجاجي قام على عنصرين يهدّدان التجربة الديمقراطيّة في تونس بالإنهيار: الأول دخول عناصر مشبوهة ومليشيات إجراميّة بالتوازي مع الحركة الإحتجاجية في عمليات حرق وقطع للطرق ونهب للممتلكات الخاصة والعامة، والثاني هو الإعلان عن تحرّكات مشبوهة للعناصر الإرهابيّة في الجبال والحدود والمدن تطوّرت إلى مواجهات محدودة في المكان والزمان، وهذين العنصرين جعل خطاب الإئتلاف الحكومي والقصر يتحوّل في وصف ما يجري من التفهّم للحركة الإحتجاجية المشروعة إلى الإدانة والتنديد وإتهام أطراف سياسيّة داخلية وأخرى خارجيّة بالوقوف خلف هذه التحركات الشعبيّة، وهو خطاب تعوّد عليه التونسيون منذ زمن النظام السابق لن يزيد الوضع العام سوى مشاعر الإحتقان والتشنّج والإنتقام، بل إنّ هذا الدخول المفاجئ للعناصر الإجراميّة على خط الحركة الإحتجاجيّة يطرح أسئلة محيّرة، ونكاد نتّهم أطرافا في الإئتلاف الحكومي بالوقوف وراء هذه المليشيات من أجل إنقاذ نفسها من ورطة الفشل السياسي والإقتصادي.
من المفترض أنّ التجربة الديمقراطية في تونس هي فريدة في نجاحها ومعزولة في سياقها الإقليمي وخاصة في ما يعرف بدول الربيع العربي، وهذا التفرّد لن يمنحها حصانة إذا لم تحصّن نفسها من الدّاخل بحكومة قادرة على تلبية المطالب الشعبيّة التي مرّ عليها خمس سنوات دون أن يتحسّسها المواطن في حياته المعيشيّة بإستثناء حريّة التعبير والممارسة السياسية، فقد كان على الرئيس أن يكف عن التدخّل في شؤون حزبه نداء تونس لمناصرة شقّ يرأسه إبنه وأن يقدّم نفسه رئيسا لكل التونسيين، كما كان على رئيس الحكومة أن يشتغل وفق الصلاحيات التي منحها له الدستور دون الإرتهان لأوامر القصر، وبدل المراهنة على القروض يحتاج الإقتصاد التونسي إلى ميزانية تقوم على:
·      الدخول في حملة دولية لمساعدة التجربة التونسية من خلال مراجعة الديون الكريهة والمطالبة بتجميد السداد لفترة ثلاث سنوات على الأقل حتى يقع إنعاش الإقتصاد بتدخّل الدولة في بعث المشاريع الإقتصادية وتطوير البنية التحتيّة ودمج المعطّلين عن العمل في الدورة الإقتصاديّة، علما وأنّ هذه الديون تستنزف 49% من الميزانية العامة، ولا يبدو هذا المطلب مستحيلا حين يقع إستثمار الرصيد المعنوي والرمزي للثورة التونسية يضاف إليها حصول تونس على جائزة نوبل للسلام وحرص دول الضفة الشمالية للمتوسط على حفظ الإستقرار في تونس حتى لا تتحمّل تبعات ما قد يحصل من فوضى وخيمة.
·      مراجعة المنظومة الجبائية بشكل جذري وعاجل من أجل إرساء عدالة جبائيّة توزّع الواجب الجبائي حسب الإنتاج والثروة حتى يتم القضاء على التهرّب الضريبي، فمحدودي الدخل في تونس يزودون الخزينة العامة والميزانية بنسبة 70% من الضرائب، في حين يتمتّع الأثرياء بإمتيازات ضريبية من قبيل رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات وملاكي الأراضي والعقارات وبعض الوظائف ذات الدخل المرتفع كالأطباء والمحامين ومكاتب المهندسين.. فالنظام الضريبي الحالي وحتى بعد تعديله بشكل سطحي يحافظ على الهوّة السحيقة بين الفقراء والأثرياء، بل سحق الطبقة الوسطى تحت خط الفقر والخصاصة.
·      مقاومة الفساد وإيجاد هياكل فعّالة للحوكمة الرشيدة، فالشرارة الأولى للإحتجاجات كانت عملية فساد صغرى في شطب إسم أحد الناجحين بالقصرين في مناظرة تشغيل، رافقها سرقة مسؤول محلي لهبة منحتها مؤسسة الرئاسة لتلاميذ الأرياف (دراجات هوائية)، وتشير المؤشرات الإقتصادية أنّ الفساد في تونس يلتهم نسبة 2% من نسبة النمو الإقتصادي، كما أنّ التهريب يمثّل 50% من الإقتصاد الوطني، وهو ما لم تعمل حكومات ما بعد الثورة على مقاومته، بل إنّ المؤشرات تقول أنّ نسبة الفساد تفاقمت وتضاعفت في مناخ التسيّب وضعف الجهاز الرقابي.

لا شكّ أنّ الإحتجاجات الإجتماعية ستنفجر بين الحين والحين وذات كل شهر يناير الذي صار شهر الحراك الإجتماعي والشعبي في تونس، ولا شكّ أنّ مناخ الحريّة في تونس سيعطي المعطّلين روح المبادرة في هذه التحرّكات لتجد النخبة الحاكمة نفسها في مأزق ما بين الوعود الإنتخابيّة والواقع الموضوعي وعدم الجرأة في تغيير أوضاع إقتصادية معقّدة تحتاج جراحة ثوريّة قد لا يقبلها الوضع الداخلي والخطوط الإقليمية أو حتى المصالح الدولية، فتلك هي الديناميكية الثورية حين تقع بين النخبة السياسيّة والفئات الشعبيّة.  
المصدر الحوار المتمدّن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=502296


السبت، 2 يناير 2016

عبيد خليفي: مصر: التعذيب ومداخل الإرهاب

يعبّر حجم التعذيب في مصر عن حالة إختناق سياسي وإقتصادي يعيشها النظام العسكري الذي إنقلب على إرادة شعبية في الثورة والحرية والديمقراطية، وقد بلغ التعذيب في عهد الفريق عبد الفتاح السيسي حالة من الجنون لم تشهده مصر في العهود السابقة، بل صار التعذيب منهج حكم وسيطرة للتطويع والإذلال والإنتقام، ويزداد التعذيب وحشيّة عندما إقتربت الذكرى الخامسة للثورة المصريّة مع تصاعد الدّعوات الشعبيّة لتصحيح مسار الثورة، وقد سجّلت مراكز رصد إنتهاكات حقوق الإنسان فضاعات وجرائم يرتكبها النظام العسكري من الشارع إلى أقسام الشرطة فمراكز أمن الدولة والمخابرات العسكريّة إلى السجون المصرية سيئة السمعة.
 منذ الإنقلاب العسكري في يوليو 2013 سجّلت مراكز الرّصد الحقوقيّة قرابة 312 حالة وفاة جرّاء التعذيب المنهجي والإهمال الطبّي، يضاف إليها الإختطاف والقتل ثم رمي الجثث في الصحراء والإدّعاء بأنهم إرهابيون ماتوا في المواجهات مع الجماعات المسلحة، وقد بلغ عدد المحتجزين منذ الإنقلاب العسكري قرابة 41 ألف معتقل بحسب ما وثقته منظمة "هيومن رايتس ووتش"، وفي تقارير غير رسمية بلغ 50 ألف معتقل، منهم 29 ألف من جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يشير إلى أنّ النظام العسكري يخوض حربا ضدّ كل معارضيه من مختلف الإتجاهات السياسيّة وليس جماعة الإخوان المسلمين فقط، وسلاحه في ذلك التعذيب والقتل الممنهج، ويبلغ التعذيب إلى منتهاه في العقاب الجماعي المسلّط على عائلات المعتقلين من حصار وإقتحامات وتعنيف مباشر يطال أكثر من 50 ألف عائلة، وقد خلص تقرير هيومن رايتس ووتش إلى القول: "لقد أقام الرّئيس السّيسي وأعوانه نظاما شديد التقييد بإعتماده على الإعتقال التعسّفي والتعذيب أثناء الإحتجاز والإستهانة بالحقوق المدنيّة والسياسيّة، وضيقه بالنقد العلني لنظام حكمه"
في الحقيقة إنّ توصيف المنظمة الدولية هيومن رايتس ووتش لهذه الإنتهاكات لا ترتقي للتعبير عن حجم الجرائم والمجازر التي يرتكبها النظام العسكري في مصر، فبالإظافة للفشل في المجال الإقتصادي الذي جعل الشعب المصري يرزخ تحت خط الفقر  ليموت جوعا لغياب أي مشروع تنموي ناجع، والفشل السياسي في صناعة برلمان من المهرّجين والطفيليين من فنانيين فاسدين وإعلاميين إنتهازيين وقيادات أمنية وعسكرية متقاعدة، فإنّ عبد الفتاح السيسي لا يملك سوى الأجهزة الأمنية والعسكريّة لإغتصاب التأييد الشعبي تحت التهديد والتعذيب والتجويع والإستنجاد بالجوقة الدعائية لنظام حسني مبارك، فالشهادات المروّعة لبعض الناجين من محارق أقسام البوليس وأمن الدولة والسجون أهمها سجن العقرب بطرّة تعبّر عن حجم الإنتهاكات الجسيمة تجاه شباب الثورة ومعارضي الإنقلاب العسكري، فأشكال التعذيب تختزل كل رصيد الشرق الأوسط وتقاليده الوحشية في التعامل مع المعارضين، وهو ما جعل التقارير الدوليّة تجمع على توصيف سياسة عبد الفتاح السيسي في مصر بسياسة القتل البطيء، آخذين في الإعتبار غياب الأفق السياسي للنظام الإنقلابي دون أية بوادر للإنفراج.
إنّ الصمت الدولي تجاه ما يحدث في مخازن الموت المصريّة تحكمه المتغيرات الدولية في سياق الإنشغال بالحرب الدولية على الإرهاب وظهور تحالفات متناقضة في هذه الحرب، ليستغلّ النظام العسكري المصري هذا الإنشغال كي يستفرد بالشعب المصري تعذيبا وتذبيحا، وهو صمت مخزي ووصمة عار لنظام دولي مرهون بمصالح إقتصادية وتحالفات إقليميّة لا تراعي مصالح الشعوب في تقرير مصيرها، لكنّ الخطر يكمن في اليأس والإحباط الذي قد يصيب هذه الشعوب تجاه التغيير السياسي السلمي ليعتنق أفراده العقيدة الجهادية المسلّحة في مواجهة قمع الأنظمة الوحشيّة، ولقد أثبت الإنقلاب العسكري في مصر لدى البعض صحّة رؤية زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري حين قال بأنّ الإسلام السياسي عاجز عن إقتلاع جذور الدولة العميقة المستبدّة وأنّ الإسلام الجهادي هو القادر لوحده على التغيير والتحرير، وهنا تكمن خطورة المشهد المصري تحت حكم العسكر الذي ساهم في تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من شبه جزيرة سيناء مؤسسا فرعا بصدد تكبيد الجيش المصري خسائر فادحة في المنشآت والأرواح، ولعلّ التجربة الجزائريّة في التسعينات خير دليل على ذلك خلال عشرية الدّم والقتل.
التعذيب الجسدي والقتل البطيء والإضطهاد السياسي هو العنوان الرئيسي لظهور التنظيمات الجهادية المسلّحة، فالحافز النفسي هو الذي يدفع بالشباب للهروب من التعذيب الوحشي اليومي إلى التفجير الدّموي الآني، فحين يفتقد الشباب الثوري روح المبادرة ليقع تهميشه والتصدّي لطموحاته بالأجهزة البوليسية والعسكرية القمعية وتسليط شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي عليه، فنحن ندفعه غصبا للصدّام مع الدولة التي تمارس التعذيب وتشرّع له، وللصدام مع المجتمع الساكت العاجز عن ظلم الدولة، فالسكوت المدني والدولي تجاه مملكة التعذيب في مصر جريمة في حق الإنسانية ستجرّنا إلى دوّامة من العنف الأهوج لتحرق الأخضر واليابس، ولهذا يفترض أن نخرج من طور رصد وإحصاء آفة التعذيب إلى طور التجنيد الدولي في حملة دولية شعبيّة للتصدّي لإنتهاكات النظام العسكري المصري ومحاصرة أعوانه وإعلامييه وكتابه ومنظّريه..

إنّ السكوت على ما يجري في مصر من تعذيب وخطف وإختفاء قسري وقتل ممنهج هو جريمة معلّقة في رقابنا ما دمنا ندّعي الإنتماء لصفة الإنسانيّة...   

الأحد، 13 ديسمبر 2015

موقف علماء الزيتونة بتونس من الفكر الوهابي بالسعودية



رسالة محمد بن عبد الوهاب مؤسس التيار الوهابي لأهل تونس والمغرب عموما 
أرسل سعود بن عبد العزيز بن سعود (المتوفى سنة 1231هـ\1816م) رسالة إلى أهل المغرب العربي سماها بعضهم بالرسالة الوهابية، وقيل إنها من كتابة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه، يبيّن فيها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويدعوهم فيها إلى الأخذ بمذهبه، وقد وردت الرسالة إلى القطر التونسي فبعث بها الباي أبو محمد حمودة باي (1759-1814) إلى علماء عصره، وطلب منهم أن يوضحوا للناس الحق، فكتب عليها العلامة المحقق أبو الفداء إسماعيل التّميمي (رحمه الله) كتابا مطولا سماه "المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية"، وأجاب عنها العلامة المحقق قاضي الجماعة أبو حفص عمر (توفى رحمه الله في محرم سنة 1222هـ/أفريل 1807م) ابن المفتي العلامة المالكي أبو الفضل قاسم المحجوب برسالة بديعة

وفيما يلي نص الرسالة "الوهابية"
بسم الله الرحمن الرحيم، نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شر أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يَضُر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {قلْ هذهِ سبيلي أدعوا إلى اللهِ على بصيرةٍ أنا ومنِ اتَّبَعني وسُبحانَ اللهِ وما أنا من المشركين}، وقال الله تعالى: {قُلْ إن كُنتم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعوني يُحبِبْكُمُ اللهُ ويغفرْ لكم ذنوبكم}، وقال الله تعالى: {وما آتاكُم الرسولُ فخُذوهُ وما نهاكم عنهُ فانتهوا}، وقال الله تعالى: {اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتْمَمتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينًا}، فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمّه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بلزوم ما أتى به إلينا من ربنا وترك البدع والتفرق والاختلاف، وقال تعالى: {اتَّبعوا ما أُنزِلَ إليكم من ربِّكُم ولا تتبعوا من دونهِ أولياءَ قليلاً ما تذَكَّرون}، وقال تعالى: {وأنَّ هذا صِراطي مُستقيمًا فاتَّبِعوهُ ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيلهِ ذلكم وصَّاكُم به لعلكُم تتَّقون}
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته آخذة ما أخذه الأمم قبلها شبرًا فشبرًا وذراعًا فذراعًا. وأخبر في الحديث أن أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: "من هي يا رسول الله؟" قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
وإذا عرفت هذا، فمعلوم ما عمّت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على العِدى، وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربات، والاستعانة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلى لله تعالى.
وصرْفُ شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الأغنياء عن الشركاء، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار.
وقال تعالى: {ويعبدونَ مِن دونِ اللهِ ما لا يضُرُّهُم ولا ينفعهم ويقولونَ هؤلاءِ شُفعاؤنا عندَ اللهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللهَ بما لا يعلمُ في السمواتِ ولا في الأرضِ سُبحانهُ وتعالى عمَّا يُشرِكون}، فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط لأجل الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلّها لله كما قال تعالى: {قُلْ للهِ الشفاعةُ جميعًا}، و: {من ذا الذي يشفعُ عندهُ إلا بإذنِهِ}، وقال تعالى: {يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعةُ إلا مَنْ أذِنَ لهُ الرحمنُ ورضيَ لهُ قولاً}. وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {ولا يشفعونَ إلا لِمَنِ ارتضى}. فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى: {وأنَّ المساجدَ للهِ فلا تدعوا معَ اللهِ أحدًا}، وقال تعالى: {ولا تدعُ من دونِ اللهِ ما لا ينفعُكَ ولا يَضُرُّكَ فإن فعلتَ فإنَّكَ إذًا مِنَ الظالمين}. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله، ولا يشفع ابتداء بل يأتي فيخرُّ لله ساجدًا فيحمده بمحامد يعلّمه إياها ثم يقول له: "ارفع رأسك وسلْ تُعْطَ واشفع تشفَّع"، ثم يحدّ له حدًا فيُدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرنا لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على مناهجهم. وما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القِباب عليها وإسراجها والصلاة عندها وجعل الصدقة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحذَّر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين وحتى تعبد أقوام من أمتي الأوثان".
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق موصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر ويبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه لفظ أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سوّاه. ولذلك قال غير واحد من العلماء: "يجب هدم القباب المبنية على القبور" لأنها أسّست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل الأمر إلى أن كفَّرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدينُ كلّه للهِ}. فمن لم يُجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان كما قال الله تعالى: {لقدْ أرسلنا رُسُلنا بالبيِّناتِ وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسْطِ وأنزلنا الحديدَ فيهِ بأسٌ شديدٌ}.وندعو إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولله عاقبة الأمور.
فهذا ما نعتقده وندين الله به، فمن عمل على ذلك فهو أخونا المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا
ونعتقد أيضًا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضره من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك. انتهى

رسالة مفتي الديار التونسية للرد على محمد بن عبد الوهاب
ردّ الشيخ عمر المحجوب قاضي ومفتي الديار التونسية (توفى في محرم سنة 1222هـ/أبريل 1807م)

الجزء الأول
{ربنا افتَحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحَقِّ وأنتَ خيرُ الفاتحين}، {ربنا لا تجعلنا فتنةً للقومِ الظالمين. ونجِّنا برحمتِكَ من القومِ الكافرين}، {يا أيُّها الذينَ آمنوا عليكُم أنفُسَكُم لا يضُرُّكُم من ضَلَّ إذا اهتَدَيتُم إلى الله مرجِعُكُم جميعًا فيُنَبِّئُكم بما كنتم تعملون}، {يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تُحِلّوا شعائر اللهِ ولا الشهرَ الحرامَ ولا الهَدْيَ ولا القلائِدَ ولا آمِّينَ البيتَ الحرامَ يبتغونَ فضلاً مِن ربِّهم ورِضوانًا وإذا حَلَلْتُم فاصطادوا ولا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قومٍ أن صَدُّوكُمْ عنِ المسجدِ الحرامِ أن تعتدوا وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعُدوان .
أما بعد هذه الفاتحة التي طلعت في سماء المفاتحة، فإنك راسلتنا تزعمُ أنك القائم بنصرة الدين، وأنك تدعو على بصيرة لما دعا إليه سيد الأولين والآخرين، وتحثُّ على الاقتفاء والإتباع، وتنهى عن الفرقة والابتداع، وأشرت في كتابك إلى النهي عن الفرقة واختلاف العباد، فأصبحت كما قال الله تعالى: ومِنَ الناسِ مَن يُعجبُكَ قولُهُ في الحياةِ الدنيا ويُشهِد الله على ما في قلبهِ وهو ألدُّ الخِصام. وإذا تولَّى سعى في الأرض ليُفسِدَ فيها ويُهلِكَ الحرْثَ والنسلَ واللهُ لا يحب الفساد 
وقد زعمت أن الناس قد ابتدعوا في الإسلام أمورًا، وأشركوا بالله من الأموات جمهورًا في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات، وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات، ونذر النذور إليهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأن ذلك كله إشراك برب الأرضين والسموات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله إنك قد ضللت وأضللت، وركبت مراكب الطغيان بما استحللت، وشنّعت وهوّلت، وعلى تكفير السلف والخلف عوَّلت، وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم، وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حُطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيَّنوا ولا تقُولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستَ مؤمنًا تَبْتَغونَ عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعِندَ اللهِ مغانِمُ كثيرةٌ}، وقال عليه الصلاة والسلام: "أُمرتُ أنا أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله – أي ومحمد رسول الله - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله."
وحيث كنت لكتاب الله معتمدًا، ولعماد سنته مستندًا، فكيف بعد هذا – ويحك - تستحلُّ دماء أقوام بهذه الكلمة ناطقون، وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم مصدقون، ولدعائم الإسلام يُقيمون، ولحوزة الإسلام يحمون، ولعبدة الأصنام يقاتلون، وعلى التوحيد يناضلون، وكيف قذفتم أنفسكم في مهواة الإلحاد، ووقعتم في شق العصا والسعي في الأرض بالفساد؟.
وأما ما تأوَّلته من تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينهم وبين رب العالمين، وزعمت أن ذلك شنشنةُ الجاهلية الماضين، فنقول لكم في جوابه: معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، وأن يأتي إليها معظمًا تعظيم العابد، وأن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بسجود أو ركوع أو صيام، ولو وقع ذلك من جاهل لانتهض إليه ولاة الأمر والعظماء، وأنكره العارفون والعلماء، وأوضحوا للجاهل المنهج القويم، وهدوه الصراط المستقيم.
وأما ما جنحت إليه وعوَّلت في التفكير عليه، من التوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدى، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسموات، إلى آخر ما ذكرتم، موقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع، ووارد في السنة القويمة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكلّ اليراع إذا كُلف بإحصائها، ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين، في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، واستسقاؤهم عام الرمادة بالعباس، واستدفاعهم به الجدب والباس، وذلك أن الأرض أجدبت في زمن عمر رضي الله عنه، وكانت الريح تذرو ترابا كالرماد لشدة الجدب، فسميت عام الرمادة لذلك، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب يستسقي للناس، فأخذ بضبْعَيْهِ وأشخصه قائما بين يديه وقال: اللهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيك، فإنك تقول وقولك الحق: {وأمَّا الجِدارُ فكانَ لغُلامَينِ يتيمَيْنِ في المدينةِ وكانَ تحتهُ كنزٌ لهما وكانَ أبوهُما صالحًا}، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دنونا به إليك مستغفرين، ثم أقبل على الناس وقال: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا، والعباس عيناه تنضحان يقول: اللهم أنت الراعي لا تُهمِلِ الضالةَ ولا تدعِ الكسير بدار مَضْيَعة، فقد ضرع الصغير ورقّ الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنه لا يبأس من رَوْحك إلا القوم الكافرون، اللهم فأغثهم بغياثك فقد تقرَّب القومُ إليك بمكانتي من نبيك عليه السلام، فنشأت سحابة ثم تراكمت، وماسَتْ فيها ريح ثم هزّت، ودرَّت بغيثٍ واكفٍ، وعاد الناس يتمسحون بردائه ويقولون له: هنيئًا لك ساقيَ الحرمين.
فأخبرني –يا أخ العرب- هل تكفّر بهذا التوسل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وتكفر معه سائر من حضر من الصحابة والتابعين، لكونهم جعلوا بينهم وبين الله واسطة من الناس، وتشفّعوا إليه بالعباس، وهل أشركوا بهذا الصنيع مع الله غيره، وما منهم إلا من أنهضته للدين القويم غيرة. كلا والله، وأقسم بالله وتالله، بل مكفّرهم هو الكافر، والحائد عن سبيلهم هو المنافق الفاجر، وهم أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا بمن بعدي: أبي بكر وعمر".
وإذا قدحت في هذا الجمع من الصحابة الذين منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما فمن أين وصل لك هذا الدين، ومن رواه لك مبلغًا عن سيد المرسلين؟ ثم ما تصنع يا هذا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في أويس، وأنه أخبر به عليه الصلاة والسلام وهو من أعلام النبوءة، وأمر عمر بطلب الاستغفار منه، وأنه طلب منه ذلك واستغفر له، وقد قال الله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام "يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنَّا كُنَّا خاطِئين"
فالزائر للأولياء والصالحين إما أن يدعو الله لحاجته، ويتوسل بسرّ ذلك الولي في إنجاح بُغيته، كفعل عمر في الاستسقاء، أو يستمدَّ من المزور الشفاعة له وإمداده بالدعاء كما في حديث أويس القرني، إذ الأولياء والعلماء كالشهداء أحياء في قبورهم، إنما انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء.
فأيُّ حرج بعد هذا يا أيها القائم للدين، في زيارة الأولياء والصالحين؟ وأي منكر تقوم بتغييره، وتقتحم شقّ العصا وإضرام سعيره؟ ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعًا كثيرة من الشفاعة، ولا يثبتونها إلا لأهل الطاعة، كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء، وعدم نفع الدعاء، وكلها عقائد عن السنة زائغة، وعن الطريق المستقيم رائغة.
وقولكم إن ما قلتموه لا يخالف فيه أحد من المسلمين، افتراء ومين، وإلحاد في الدين، لأن أهل السنة والجماعة يثبتون لغير الأنبياء الشفاعة، كالعلماء والصلحاء وآحاد المؤمنين، فمنهم من يشفع للقبيلة ومنه من يشفع للفئام من الناس كما ورد أيضًا أن أويسًا القرني يشفع في مثل ربيعة ومضر.
وأما المعتزلة فإنهم منعوا شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأثبتوا الشفاعة العظمى من هول الموقف، والشفاعة للمؤمنين المطيعين أو التائبين في رفع الدرجات، ولم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر الذين لم يتوبوا في النجاة من النار بناء على مذهبهم الفاسد من التكفير بالذنوب، وأنه يجب عليها التعذيب.
وأما ما جنحت إليه من هدم ما بُنيَ على مشاهد الأولياء من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهياء والعظيمة العظمى من الظلم التي أضلك الله فيها على علم "ومَنْ أظلمُ مِمَّن منَعَ مساجِدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُهُ وسعى في خرابِها أولئِكَ ما كانَ لهم أن يدخُلوها إلا خائِفينَ لهُمْ في الدنيا خِزْيٌ ولهُم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ" وكأنك سمعت في بعض المحاضر بعض الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر، فتلقَّفْته مجملاً من غير بيان، وأخذته جُزافًا من غير مكيال ولا ميزان، وجعلت ذلك وليجةً إلى ما تقلدته من العسف والطغيان، في هدم ما على قبور الأولياء والعلماء من البنيان. ولو فاوضت الأئمة، واستهديت هداة الأمة، الذين خاضوا من الشريعة لُججها، واقتحموا ثَبَجها، وعالجوا غِمارها، وركبوا تيارها، لأخبروك أن محلّ ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء في مقابر المسلمين المعدّة لدفن عامّتهم لا على التعيين، لِما فيه من التحجير على بقية المستحقين، ونبش عظام المسلمين.
وأما ما يبنيه المسلمون في أملاكهم المملوكة لهم، ليصلوا بمن يُدفن هناك حبلهم، فلا حرج يلحقهم، ولا حرمة ترهقهم. فكما لا تحجير عليهم في بناء أملاكهم دُورًا أو حوانيت أو مساجد، كذلك لا حرج عليهم في جعلها قبابًا أو مقامات أو مشاهد.
ثم ليتك إذ تلقفت ذلك منهم، ووعيته عنهم، أن تعيد عليهم السؤال، وتشرح لهم نازلة الحال، وهل يجوز بعد النزول والوقوع، هدم ما بُني على الوجه الممنوع، وهل هذا التخريب محظور أو مشروع. فإذا أجابوك أنه من معارك الأنظار، ومحل اختلاف العلماء والنُّظار، وأن منهم من يقول بإبقائه على حاله، رعيا للحائز في إتلاف ماله، وأن له شبهة في الجملة تحميه، وفي ذلك البناء منفعة للزائر تقيه. ومنهم من شدد النكير، وأبى إلا الهدم والتغيير.
فإذا تحقق عندك هذا، فكيف تقدم هذا الإقدام وتخوض مزالق الأقدام، وتطلق العنان في هدم كل مقام، من غير مراعاة في الدين ولا ذمام. فإذا انفتحت لك هذه الأبواب، نظرت بنظر آخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرُك تغييره، ليس متفقًا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وقد سقط عنك القيام فيه والانتقاد.
ثم بعد الوصول إلى هذا المقام، أعد نظرًا في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام، واستباحة المسجد الحرام، وإخافة أهل الحرمين الشريفين، والاستهوان لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فسيتضح لك أنك غيَّرت المنكر في زعمك، وبحسب اعتقادك وفهمك، وأتيت بجمل كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من الكبائر، آذيت بها نفسك والمسلمين، وابتغيت بها غير سبيل المؤمنين، وتعرضت بها لإذاية الأولياء والصالحين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رواه البخاري والإمام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قال من عادى لي وليًّا فقد آذنني بحرب"، فكفى بالتعرض لحرب الله خطرًا، وقذفًا في العطب وضررًا.
وأما إنكار زيارة القبور، فأي حرج فيها أو محظور، وأي ذميمة تطرقها أو تعروها، مع ثبوت حديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، فإن هذا الحديث ناسخ لما ورد من النهي عن زيارتها، وماحٍ لما في أول الإسلام من حماية الأمة من أسباب ضلالتها، لقرب عهدها بجاهليتها، وعبادة أصنامها وآلهتها. وكيف تمنع من زيارتها والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرعها، وسامَ رياضها وأربعها، فقد ثبت في حديث عائشة أم المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم زار بقيع الغرقد واستغفر فيه لموتى المسلمين، وثبت أيضًا أنه زار قبر أمه آمنة بنت وهب واستغفر لها. وأخذ بذلك الصحابة والتابعون، ودرج عليه العلماء والسلف الماضون، فقد ثبت في الأحاديث المروية عن أئمة الهدى ونجوم الاقتداء، أن فاطمة سيدة نساء العالمين زارت عمها سيد الشهداء، وذهبت من المدينة إلى جبل أحد، ولم ينكر من الصحابة أحد، وهم إذ ذاك بالمدينة متآمرون، وعلى إقامة الدين متناصرون. أفنجعل هؤلاء أيضًا مبتدعين، وأنهم سكتوا عن الابتداع في الدين؟ كلا والله، بل يجب علينا إتباعهم، ومن أدلة الشريعة إجماعهم.
وقد مضت على ذلك العلماء في جميع الأقطار، وانتدبوا بأنفسهم للاستمداد من قبور الصلحاء وقضاء الأوطار، ودونوا ذلك في كتبهم ومؤلفاتهم، وسطروه في دواوينهم وتعليقاتهم، وقسموا الزيارة إلى أقسام، وأوضحوا ما تلخص لديهم بالأدلة الشرعية من الأحكام. وذلك أن الزيارة إن كانت للاتعاظ والاعتبار، فلا فرق في جوازها بين قبور المسلمين والكفار، وإن كانت للترحم والاستغفار من الزائر، فلا منع فيها إلا في حق الكافر، فإن الشريعة أخبرت بعدم غفران كفره وعليه حملوا قوله تعالى{ولا تُصَلِّ على أحدٍ منهُم ماتَ أبدًا ولا تَقُمْ على قبرهِ}. وإن كانت الزيارة لاستمداد الزائر من المزور، وتوخي المكان الذي فضله مشهور، والدعاء عند قبره لأمر من الأمور، فلا حرج فيها ولا محظور، بل هو مندوب إليه، ومرغّب فيه، وإنه مما تشد المطي إليه، ومن خالف في هذا الحكم سبيل جمهورهم، واتبع من الشبهات مخالف منشورهم، فقد شدد العلماء في النكير عليه، وسددوا سهام النقد إليه، وأشرعوا نحوه رماح التضليل، وأرهفوا له سيوف التجهيل، واتفقت كلمتهم على بدعته في الاعتقاد، وثنوا إليه عنان الانتقاد، ومن يُضلل الله فما له من هاد.
الجزء الثاني
وأما النهي الوارد في شد المطي لغير المساجد الثلاثة فإنما هو بالنسبة لنذر الصلاة فيها، فإنه لا يختلف ثواب الصلاة لديها.
وأما المزارات فتختلف في التصريف مقاماتها، وتتفاوت في ذلك كراماتها، وذلك لسرّ في الاستمداد والإمداد لا تطلع عليه، وضُرب بسور له باب بينك وبين الوصول إليه، وقد أوضح ذلك حجة الإسلام، ومن شهد له بالصديقية العلماء والأولياء العظام.
وأما إدماجكم لقبور الأنبياء في أثناء النكير، والتضليل لزائرها والتكفير، فهو الذي أحفظ عليكم الصدور، وأترع حياض الكراهة والنفور، وسدد إليكم سهام الاعتراض، وأوقد شُواظ البغض والارتماض.
فقل لي – يا أخا العرب- هل قمت لنصرة الدين أم لنقض عراه، وهل أنت مصدق بالوحي لنبيه أو قائل: إن هو إلا إفك افتراه؟ وما تصنع بعد اللتيَّا والتي، في حديث "من زار قبري وجبت له شفاعتي"؟ وأخبرني هل تضلل سليمان بن داود في بنائه على قبر الخليل ومن معه من أنبياء بني إسرائيل؟ وما تقول –ويحك- في الحديث الذي رواه جهابذة الرواة، وصححه المحدثون الثقات، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال"لما أسري بي إلى بيت المقدس، مرّ بي جبريل على قبر إبراهيم عليهما السلام، فقال لي انزل فصلّ هنا ركعتين، فإن ههنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام". وعنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أنه قال "من لم تُمكنْه زيارتي فليزُر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام". فأين تذهب بعد هذا يا هذا؟ وهل تجد لنفسك مدخلاً أو معاذًا؟ وهل أبقيت بعد تضليل جميع الأنبياء ملاذًا؟ "ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذْ هَدَيْتنا وهبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنكَ أنتَ الوهاب"
وأما تلميحكم للأحاديث التي تتلقفونها، ولا تحسنونها ولا تعرفونها، فهِمْتُم بسبب ذلك في أودية الضلالة، ولم تشيموا بها إلا بُرُوق الجهالة، وسلكتم شِعابها من غير خبير، ونحوتم أبوابها بلا تدبر ولا تدبير، فإن حديث"لا تتخذوا قبري مسجدًا"، محمله عند البخاري على جعله للصلاة متعبدًا، حفظًا للتوحيد، وحماية للجاهل من العبيد، لأن المصلي للقبلة يصير كأنه مصلٍّ إليه، فحمى صلى الله عليه وسلم حمى ذلك من الوقوع فيه. وأما قصده للزيارة والاستشفاع والاستمداد ببركته والانتفاع، وقصد المسلمين إياه من سائر البقاع، فما يسعنا إلا الإتباع.
وكذلك ما لوَّحْتَ به إلى شدّ الرحال، فإنك أخطأت في الاستشهاد به في نازلة الحال، وذلك أن الحصر في المساجد، دون سائر المشاهد.
وكذلك ما لمحت إليه من حديث تعظيم القبر بإسراجه، فإنك أخطأت فيه واضح منهاجه، مع بهرجة نقده في رواجه، ومحمله – على فرض صحته- على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن الانتفاع للزائرين، أما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين، فهو جائز بلا مين.
وأما ما تدَّعونه من ذبح الذبائح والنذور، وتبالغون في شأنها التغيير والتنكير، وتصف ألسنتكم الكذب، وتثيرون في شأنها الهرج والشغب، فكون الذبائح المذكورة مما أهِلَّ به لغير الله مكابرةٌ للعيان، وقذفٌ بالإفك والبهتان، فإنا بلونا أحوال أولئك الناذرين، فلم نر أحدًا منهم يسمي عند ذبحها اسم ولي من الصالحين، ولا يلطخ الضرائح بدم تلك الذبائح، ولا يأتون بفعل من الأفعال، الحاكمة على تحريم الذبيحة والإهلال.
وأما نذرها لتلكم المزارات، فليس على أنها من باب الديانات، ولا أن من لم يفعل ذلك يكون ناقص الدين في العادات، وإنما يقصدون بذلك مقاصد الرُّقى والنشر، والانتفاع في الدنيا بسر في التصدق بها استتر، ولم يدر منها إلا ما اشتهر.
والواجب علينا وعليكم الرجوع في حكم نذرها إلى العلماء الأعلام، المتضلعين من دراية الأحكام، المقيمين لقسطاسها، المسرجين لنبراسها، الناقبين على أساسها، ومن لديهم محك عسجدها ونحاسها.
فإن كنتم للحق تقيمون، ومن مخالفة الشريعة تتجرمون {فسألوا أهلَ الذِّكرِ إن كنتم لا تعلمون}، {ولا تَقْعُدوا بكُلِّ صِراطٍ توعدون}، فإنهم يهدونكم السبيل، ويفتونكم في هذه المسألة بالتفصيل، وأن هذا الناذر إن نذر تلك الذبائح للولي المعيّن بلفظ الهدي والبدنة، فقد جاء بالسيئة مكان الحسنة، ولكن ما رأينا من خلعَ في هذا المحظور رسَنَه، ولا من اهتصَرَ فَتَنه، وإن نذر تلك الذبائح لمحل الزيارة، بغير هاته العبارة، وكان من الذبائح التي تقبل أن تكون هديًا، فهل يلزمه أن يسعى به لذلك المزار سعيًا، أو لا يلزمه إلا التصدق به في موضعه رعيًا، خلاف في مذهب مالك شهير، قرره النحارير. وإن كان ذلك النذر مما لا يصح إهداؤه، فالقاصد للفقراء الملازمين بمحل الشيخ يلزمه بعثه وإنهاؤه، والقاصد للولي في نذره وتشرعه، لا يلزمه إلا التصدق به في موضعه.
وإذا اتضح لديك الحال، فأي داعية للحرب والقتال؟ وهل يتميز المشروع من هذه الصور بالمحظور، إلا بالنيات التي لا يعلمها إلا العالم بما في الصدور؟ والله إنما كلفنا بالظاهر، ووكل إليه أمر السرائر. ولم يقيّض بالخواطر نقيبًا، ولا جعل عليها مهيمنًا من الولاة ولا رقيبا.
وإذا التزمت سدَّ الذريعة بالمنع من المشروع، خوفًا من الوقوع في الممنوع، فالتزم هذا الالتزام، في سائر العبادات الواقعة في الإسلام، التي لا تفرقة فيها بين المسلم والكافر، إلا بما انطوت عليه الضمائر. فإن المصلي في المسجد يحتمل أن يقصد عبادة الحجارة، بمثل ما احتمل صاحب الذبائح والزيارة، والصائم يحتمل أن يقصد بصومه تصحيح المزاج، أو المداواة والعلاج، والمزكي يحتمل أن يقصد مقصدًا دنيويًا، أو معبودًا جاهليًا، والمُحرِم بحج أو عمرة، يحتمل أن ينوي ما يوجب كفره.
وإذا وصلت إلى هذا الالتزام، نقضت سائر دعائم الإسلام، والتبس أهل الكفر بأهل الإيمان، وأفضى الحال إلى هدم جميع الأركان، واستبيحت دماء جميع المسلمين، وهدمت صلواتهم ومساجدهم وصوامعهم أجمعين.
فانظر أيها الإنسان، ما هذا الهذيان، وكيف لعب بك الشيطان، وماذا أوقعك فيه من الخسران. فارجع عن هذا الضلال المبين، وقل ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
وأما ما جلبتم من الأحاديث الواردة في تغيير النبي صلى الله عليه وسلم للقبور، وأنه أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بطمسها وتسويتها، فقد أخطأتم الطريق في فهمها، ولم يأتِكم نبأ علمها، ولو سألتم عن ذلك ذويه، لأخبروكم بأن محمله طمس ما كانت الجاهلية عليه، وكانت عادتهم إذا مات عظيم من عظمائهم، بنوا على قبره بناء كأطمٍ من آطامهم، مباهاة وفخرًا، وتعاظمًا وكبرًا، فبعث صلى الله عليه وسلم من يمحو من الجاهلية آثارها، ويطمس مباهاتها وفخارها، وإلا فلو كان كما ذكرتم، لكان حكم التسنيم كحكم ما أنكرتم.
وإذا استبان لكم واتضح لديكم، انقلبت الحجة التي أتيتم بها عليكم، وكيف تجعلون تلك الأحاديث حجة قاضية على وجوب كون القبور ضاحية، والفرق ظاهر بين البناء على القبور، وحفر القبور تحت البناء، فالأول من فعل الجاهلية الوارد فيه ما ورد، والثاني هو الذي يعوزكم فيه المستند، ولا يوافقكم على تعميم النهي أحد.
وأما ما نزعتم إليه من التهديد، وقرعتم فيه بآيات الحديد، وذكرتم "أن من لم يُجِب بالحجة والبيان، دعوناه بالسيف والسنان"، فاعلم يا هذا أننا لسنا ممن يعبد الله على حرف، ولا ممن يفرُّ عن نصرة دينه من الزحف، ولا ممن يظن بربه الظنون، أو يتزحزح عن الوثوق بقوله تعالى: {فإذا جاءَ أجلُهُم لا يَسْتأخِرونَ ساعةً ولا يستقدِمون}، ولا ممن يميل عن الاعتصام بالله سرًا وعلنًا، أو يشك في قوله تعالى: {قُل لن يُصيبَنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا}، وما بنا من وهن ولا فشل، ولا ضعف في النكاية ولا كسل، ننتصر للدين ونحمي حماه، وما النصر إلا من عند الله.
وأما ما جال في نفوسكم، ودار في رؤوسكم، وامتدت إليه يد الطمع، وسوَّلته الأماني والخدع، من أنكم من الفئة الذين هم ومن حالفهم، لا يضرهم من خالفهم، وأنكم من الطائفة الظاهرين على الحق، وأن هذه المناقب تساق إليكم وتَحقّ، فكلا وحاشا أن يكون لكم في هذه المناقب من نصيب، أو يصير لكم إرثها بفرض أو تعصيب، فإن هذا الحديث وإن كان واردًا صحيحًا، إلا أنكم لم تُوفّوا طريقه تنقيحًا، فإن في بعض رواياته "وهم بالمغرب" وهي تحجبكم عن هذه المناقب، وتبعدكم عنها بعد المشارق من المغارب.
فانفض يديك مما ليس إليك، ولا تمدَّنَّ عينيك إلى ما حرِّمت عليك، فإنكاح الثريا من سهيل، أمكن من هذا المستحيل.
أما أهل هذه الأصقاع والذين بأيديهم مقاليد هذه البقاع، فهم أجدر أن يكونوا من إخواننا، وتمتدُّ أيديهم إلى خِواننا، لصحة عقائدهم السنية، وإتباعهم سبيل الشريعة المحمدية، ونبذهم للابتداع في الدين، وانقيادهم للإجماع وسبيل المؤمنين.
وقد أنبأتنا في هذا الكتاب، وأعربت في طيّ الخطاب، عن عقائد المبتدعة، الزائغين عن السنة المتبعة، الراكبين مراكب الاعتساف، الراغبين عن جمع الكلمة والائتلاف، فالنصيحة النصيحة، أن تنزع لباس العقائد الفاسدة وتتسربل العقائد الصحيحة، وترجع إلى الله وتؤمن بلقاه، ولا تكفّر أحدًا بذنب اجتناه، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله.
وزبدة الجواب وفذلكة الحساب، أنك إن قفوت يا أخا العرب نصحك، وأسَوْت بالتوبة جرحك، وأدملت بالإنابة قرحك، فمرحبًا بأخي الصَّلاح، وحيهلا بالمؤازر على الطاعة والنجاح، وجمع الكلمة والسماح، وإن أطلت في لُجّة الغواية سبْحَكَ، وشيدت في الفتنة صرحك، واختلتَ عارضًا رُمحك، فإن بني عمك فيهم رماح، وما منهم إلا من يتقلد الصفاح، ويجيل في الحرب فائز القِداح
والله تعالى يسدد سهام الأمة الساعية فيما يحبه ويرضاه، ويُخمد ضرام الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. والسلام.
هذا للتأمل ومقارعة الحجة بالحجّة......