الأحد، 19 أبريل 2015

عبيد خليفي: حادثة تشارلي هبدو، الوقيعة والذّريعة


حادثة تشارلي هبدو: الوقيعة والذّريعة




عندما تهدأ الإنفعالات يبدأ التفكير في الإحتمالات..
حبس العالم أنفاسه على وقع مجزرة آلصحيفة الفرنسيّة "تشارلي هبدو" يوم الاربعاء 7 جانفي 2015، والتي راح ضحيّتها 12 قتيلا، وبعد المطاردة الأمنية في ضواحي باريس تمكّن المتهمون الثلاثة في العمليّة من الإستيلاء على مركّب تجاري يهودي ليحتجزوا عددا من الرهائن، وانتهت العمليّة بالقضاء على المحتجزين وسقوط خمسة قتلى من الرهائن، هو إعتداء عاديّ في السياق العام لزمن المواجهة مع القتل والإرهاب، وبالقياس لكمّ الموت والقتل في المناطق الساخنة شرقا وغربا، ولكنّ الحدث يبدو إستثنائيّا وهو يخترق الفضاء الأوروبي الغربي الذي يفترض أنّه إختار أن يخوض معاركه ومصالحه في المجال الجغرافي الآخر: الشرق الأوسط وإفريقيا.
خرجت فرنسا في مسيرة مليونيّة سمّتها "مسيرة الجمهورية لمناهضة الإرهاب"، حضرها أكثر من 50 زعيم دولة، فهرول الأوروبيون لهذه المسيرة يقينا منهم بتلازم المسار في مواجهة "الإرهاب الإسلامي" من جهة، وتلازم المصير الإتحادي لدول أوروبّا، وهو أيضا من باب التضامن الأوروبي، كما هرول القادة العرب خائفين مذعورين من باب التكفير عن الخطيئة وإعلان البراءة من عنف إرهابيّ تأصّلت تهمته تجاه العرب والمسلمين، ولعلّ الحضور العربي كان أشبه بالإعتذار عمّا إقترفته أيادي الإبن الضال، هي عقدة التبعيّة والشعور بالذنب الأبدي.
وحضرت إسرائيل وهي أكثر المستفيدين من هذه المجزرة لتوجّه ضغطا سياسيّا تجاه الجميع: تجاه العرب بوصفهم إرهابيين، وتجاه الغرب الأوروبّي الذي مازال يحفظ بعضا من ماء الوجه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وقد تسرّبت بعض المعلومات التي تؤكّد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي فرض حضوره على الرئيس الفرنسي هولاند في هذه المسيرة، فما كان من الرئيس الفرنسي إلاّ أن وجّه الدّعوة بشكل عاجل للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لحضور المسيرة لرفع الحرج الذي قد يتسبّب فيه حضور نتنياهو، وذهب نتنياهو لفرنسا داعيا يهود أوروبّا للهجرة نحو إسرائيل القادرة وحدها على تأمين حياتهم بما في ذلك من إهانة لفرنسا ولقدراتها الأمنيّة، كما مارس ضغطا على عائلات الضحايا اليهود ليدفن القتلى في القدس وتلعب بذلك إسرائيل دور المظلوميّة والضحيّة. 
هل كانت المذبحة ثمنا لتلك السخرية؟ كانت صحيفة "شارلي هبدو" الفرنسيّة قد تخصّصت في الرسوم الكاريكاتوريّة الموجّهة لكل المقدّسات السياسيّة منها وخاصّة الدّينيّة، ولكنّها راحت تتخصّص أكثر في هدم صورة النّبيّ المقدّس، ولئن كان الذّوق الغربي الأوروبي قد إستساغ الصّورة الهزليّة لأنبياء بني إسرائيل خاصّة موسى وعيسى فإنّ الإقتراب من نبيّ المسلمين محمد كان أشبه باللّعب بالنّار في ظل ظرف دوليّ إشتدّ فيه الصّراع بين المسلمين والغرب، وكان ذروته أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من حروب على الإرهاب وغزو لأفغانستان والعراق.. بل إنّ مجريات الأحداث خلال العشريّة الفارطة تشير إلى أنّ هذا الصراع سيتواصل عهودا وأن بتلوينات مختلفة يخفي صراع المصالح نفطا وسلاحا.
كانت الصحيفة الفرنسيّة "شارلي هبدو" قد تعرّضت لعدة تهديدات سنة 2006 على خلفيّة نشرها لصور كاريكاتوريّة ساخرة من نبيّ الإسلام محمد، لكنّ تلك التهديدات لم تتحقّق إلا بعد خمسة سنوات في حادثة حرق مقرّ الصحيفة في نوفمبر 2011 وهو ما عدّته الحكومة الفرنسيّة فعلا عدائيّا مدبّرا، وعادت الصحيفة سنة 2012 لتنشر دفعة أخرى من تلك الصور الساخرة من النبي محمد، في ظل تفجّر الأوضاع في المنطقة العربيّة وصعود الإسلام السياسي للحكم في تونس وليبيا ومصر من جهة، وبداية تشكّل الإسلام الجهادي تجميعا لإرث تنظيم القاعدة في المنطقة العربيّة وتشابك خلاياه مع أنصاره في أوروبا، وللتذكير فإنّ الصحيفة الفرنسيّة لم تبتدع هذه الرسوم الساخرة، ولكنّها سارت خلف مبادرة الصحيفة الدانمركية "يولاندس بوسطن" 
وكانت صحيفة "يولاندس بوسطن" الدانمركية، أول من أثارت أزمة الرسوم المسيئة للنبي سنة 2005، حيث خرج ملايين المتظاهرين في شتى أنحاء العالم الإسلامي منددين بالصحيفة، قبل أن تعلن صحيفة "شارلي هبدو" تضامنها مع نظيرتها الدانمركية وأعادت نشر الرسوم المسيئة بالإضافة إلى رسوم كاريكاتيرية أخري استفزت مشاعر المسلمين، رغم أنّ الصحيفة الدانمركيّة كانت قد أعلنت أنها لن تنشر هذه الصور في المستقبل، ولا يجب أن ننسى أن أهم مرصد أوروبي للميز العنصري قد قام بمتابعة الصحيفة الدنماركيّة لمدّة ثلاثة أشهر وخلص إلى أن هذه الصحيفة لم تنشر الصور الساخرة من النّبي محمد من باب حريّة التعبير والإعتقاد وإنّما من باب نشر الكره والميز العقائدي العنصري، والأمر نفسه يقاس على الصحيفة الفرنسيّة، ولذلك يجب أن ننظر لهذه المسألة من زاوية سياسيّة صرفة مرتبطة بنظرة الآخر الغربي للإنسان العربي المسلم: عمامة وسلاح وجارية.
أعتقد أن مجزرة شارلي هبدو تُخفي صراعا حضاريّا حقيقيا نحاول طمسه تحت عنوان الحوار بين الحضارات ومقولات التّسامح والسلام العالمي، هو صراع دينيّ تخترقه تناقضات المصالح الإقتصاديّة لمفهوم السيطرة والتبعيّة والنفوذ الغربي على المنطقة العربيّة بما تحتويه من مقدّرات نفطيّة وسوقا مفتوحة لمنتجات السلاح الغربي، ومن ثمّ ستكون المنطقة العربيّة منطقة توتّر لأجيال لاحقة فتكون مخبرا حقيقيّا لحروب الوكالة بين الأمم، ولا ننسى أنّ المنطقة العربيّة تقع على تخوم ثلاثة قوميات فاعلة وهي الفرس والأتراك واليهود (كقوميّة دينيّة)، والبعيد الكامن في الصراع كحلقة أوسع جغرافيّا هي: أوروبّا وأمريكا وروسيا.
إنّ ظاهرة الرسوم الساخرة من النّبي محمد هي قادح لتحريك مسار الحروب والنّزاعات الإقتصاديّة، فأن يكون الإعتداء في فرنسا بالذّات فلا تفسير سوى إخراج هذه الدولة من سياقها الوطني الدّاخلي نحو حرب توسّعيّة لتحريك تجارة السلاح وتأمين منابع النفط، وبذلك تكون المنطقة العربيّة واقعة تحت ضغط ثالوث: النفط والسلاح وإسرائيل، فالشتات الذي يعيشه العالم العربي يؤسّس لحضور هذا الثالوث، ولئن كانت إسرائيل هي الحافز لتنشيط الترابط العضوي بين النفط والسلاح لفترة ما قبل معاهدات السلام بينها وبين دول الجوار وخاصة المبادرة العربيّة، فإنّ "الإرهابي" هو البديل الفعلي لذلك العدوّ الأزلي بالنسبة للغرب والأنظمة العربيّة التابعة لها.
يختزل الواقع العربي شعورا متضخّما بالخطيئة إزاء ملفّ الإرهاب، فهو لم يتخلّص بعد من عقدة 11 سبتمبر، ذلك الحدث الذي مثّل فارقة في تاريخ الصّدام بين ثقافتين وحضارتين متناقضتين من حيث المصالح والطموحات، كان على العرب أن يعتذروا عن فعل عدائي أنجزه شباب عربيّ بعقيدة إسلاميّة تجاه أمريكا خلّف أكثر من ثلاثة ألآف قتيل، وما كان للغرب أن يعتذر عن حقبة إستعماريّة أو الحروب التي زرعت الموت في الشرق الأوسط ومناطق التوتّر العربيّة، والتدخّل السافر في شؤون البلدان العربيّة، فتلك الأنظمة العربيّة هي التي تسبّبت في ظهور جيل التّكفير والتّفجير عبر منظومة تعليميّة فاشلة، وعبر سياسات تنمويّة أفشل همّشت الإنسان المسلم وقتلت فيه روح المواطنة والديمقراطية والطموح والعمل السياسي..
إنّ الفجيعة التي يعيشها حكّام العرب أو حتّى بعض المثقّفين العرب تجاه كل قطرة دم غربيّة تسيل تحت وقع الضربات الإرهابيّة لا نجد لها مبرّر سوى عقدة الخطيئة والتكفير عن الذّنب والشعور بالدّونيّة، وصار اليقين أنّ العالم العربي والإسلامي هو صانع الإرهاب الأعمى عجزا وخوفا، وهو ما يبرّر إصطفاف هؤلاء الحكّام خلف كل مشروع أو حملة أو غزو لمقاومة الإرهاب، دون تحديد واضح لمفهوم الإرهاب، فالآخر هو الذي يحدّد مفهوم الإرهاب ووسائله وأمكنته وما على النظم العربيّة سوى تحمّل تبعات إستراتيجيا المواجهة التي يخطّط لها العالم الغربي ويتحكّم في مساراتها. 
والطريف في الأمر أنّ الأنظمة العربيّة التي سارعت للتنديد بمجزرة شارلي هبدو هي أكثر الأنظمة محاربة لحريّة التعبير عبر تنفيذ الأحكام الدّينيّة المشوّهة تجاه الصحفيين والمعارضين والكتاب والمثقفين، وكما قال إبن خلدون "المغلوب مُولع أبدا في الإقتداء بالغالب"، ومنطق الغلبة فرض عليهم التّبعيّة دون أن يفرض عليهم الإقتداء والتقليد، هي أنظمة عجزت عن فهم ظاهرة التطرّف الدّيني رغم أنها ساهمت في نشأتها وانتشارها، فقد فشلت الدولة الوطنيّة في الأقطار العربيّة في ترسيخ مقوّمات الحداثة والمواطنة والعدالة الإجتماعيّة فقتلت روح التحرّر لدى أجيال من المثقفين والشباب، ودفعت شقّا كبيرا نحو حمل السلاح لمواجهة الأنظمة الكليانيّة في مرحلة أولى ومواجهة الأنظمة الداعمة لها في مرحلة ثانية، وخاضت هذه الجماعات حروبا بالوكالة في المجال الجغرافي العربي والإسلامي.
إنّ الشعور بالخطيئة ومحاولة التكفير عن ذنب التطرف الدّيني العربي والإسلامي هو الذي يجعل الانظمة العربيّة تخجل حتى من دعم أيّة محاولة للتحرّر في فلسطين والمنطقة العربيّة، وهي مستعدّة ليس للتعاون فقط لمحاربة الإرهاب العالمي ولكن أن تجعل مجالها الجغرافي مسرحا لتلك المعركة، وتصبح المناورات المشتركة بين الأنظمة العربية والحلف الأطلسي بحضور الكيان الإسرائيلي أمرا مبرّرا من أجل مقاومة الإرهاب، وهذه الإستراتيجيا هي التّي ستخلق تنظيم "داعش" أو ما يسمى بالدولة الإسلامية ككائن هلامي يجب محاربته في كل الإتجاهات ولو بصداقة مع عدوّ الأمس.
نجحت إسرائيل في بلبلة المفاهيم السياسيّة الأخلاقية، فمارست نوعا من الإنزياح بمفهومي الضحيّة والقاتل، والمقاومة والإرهاب، فتحوّلت من سرطان مغروس في الجسم العربي يريد أن يفتك به إلى وردة تحاصرها الأشواك تكاد تقتلها، وفي حادثة شارلي هبدو بزخمها الفعلي والإعلامي وظّفت إسرائيل كل إمكانياتها ونفوذها لتستفيد من فعل عدائيّ واقع خارج مجالها الجغرافي والسياسي، فأثبتت قوّتها ونفوذها تجاه فرنسا بحضور المسيرة رغما عن هولاند الذي طلب من نتنياهو عدم الحضور، واستثمرت إسرائيل تلك المذبحة لتلعب دور الضحيّة وتمارس الإبتزاز السياسي تجاه الغرب، ولتبرير كل المجازر التي إرتكبتها إسرائيل تجاه الفلسطينيين أو العرب عموما.
إنّ ضعف الأنظمة العربيّة الناتج عن غياب الديمقراطيّة وفقدان المشروعيّة الشعبيّة هو الذي يمنح إسرائيل كل تلك القوّة في فرض نفوذها على العالم الغربي، وحدها لبنان بديمقراطيّة طائفيّة تمتلك هامشا من المقاومة المسنودة إقليميّا (حزب الله)، وخلال عقود من حروب التحرير في المنطقة العربيّة توّجتها الملحمة الفلسطينيّة إرتسمت للعربي صورة المقاوم الثائر المجاهد يكتسب تعاطفا شعبيّا في كل أصقاع العالم، وتلك الصّورة كانت كابوسا للكيان الإسرائيلي بإعتبارها رديفا لمشروعية حمل السلاح ولو بذريعة دينيّة إسمها الجهاد، لكنّ ميوعة مشهد المواجهة اليوم بكلّ الإنحرافات التي عرفتها الحركات الإسلاميّة المسلّحة هي التي تعطي الذّريعة للآخر كي يرمي المقاومة في سلّة الإرهاب.
لم تكن فرنسا بمنأى عن تهديد الجماعات الجهاديّة خلال العشريّة الأخيرة، وذلك لتنامي دورها العسكري لكبح جماح الطموح العسكريّ الأمريكيّ والبريطاني، ولا تكاد فرنسا تخرج من صورتها التاريخيّة باعتبارها دولة عظمى لها من القوّة العسكريّة ما يحفظ لها وزنها الدولي، شريعتها في ذلك التدخّل العسكري للحفاظ على مصالحها وخاصة إذا تعلّق الأمر بمناطق نفوذها التاريخي في إفريقيا، مع أنّ تدخّلاتها العسكرية دائما ما تجد معارضة من الرأي العام الفرنسي، وتعدّ مجزرة شارلي هبدو الذّريعة السياسية لتدخّل عسكري فرنسي في مجالات النفوذ التاريخي، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي هولاند ثلاثة أيام بعد عملية شارلي هبدو من ضرورة توجيه ضربات عسكريّة وقائيّة لأماكن تمركز الجماعات الإرهابيّة، وأظنّه يلمّح مباشرة لليبيا.
الحوار المتمدن-العدد: 4708 - 2015 / 2 / 2 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق