الأحد، 19 أبريل 2015

عبيد خليفي: محمد الطالبي، التجديد الديني بين الروافض والدّوافع

محمد الطالبي: التجديد الديني بين الروافض والدّوافع



في الثالثة والتسعين من العمر لا يزال المفكّر محمّد الطالبي يفكّر وينتج معرفة بعد حصيلة قوامها 28 كتابا وأكثر من 300 دراسة علميّة أكاديميّة، لكنّ الفارق اليوم أنّ محمد الطالبي خرج من أسوار الجامعة ومراكز البحوث والمنتديات الفكريّة ليصدم الرأي العام بآراء وأفكار بلبلت ما يُعتقد أنّها من "ثوابت المسلم"، وقد كان محمّد الطالبي قد مهّد لهذه الصدمة بتأسيس "الجمعيّة الدوليّة للمسلم القرآني"(21 مارس 2013) في ظرف تاريخي تميّز بعدّة خصائص أهمّها إندلاع ما يسمى بثورة الربيع العربي وصعود الإسلام السياسي لسدّة الحكم، وإنتشار الإسلام الجهادي، وبداية تشكّل تنظيمات الدولة الإسلامية في العراق والشام، في لحظة تاريخيّة إشتدّ فيها الصراع المذهبي والفتنة الطائفيّة ليتصدّر شيوخ الدّين والفتوى المشهد السياسي والساحة الإعلاميّة.
روافض التجديد والإجتهاد
كان لتأسيس الجمعية الدوليّة المسلمين القرآنيين نقاش محدود في مستوى النخب السياسيّة والنخب العلميّة الأكاديميّة ليبلغ درجة الفتنة التي أثارها "منشور الجمعية حول حكم الخمر في القرآن"، ولا يبدو هذا المنشور شذوذا عن أهداف الجمعية: فالمسلم القرآني هو المسلم الذي يُحدث قطيعة مع الشريعة الإسلامية التي وضعها الفقهاء وعلماء الدين وأن يعود إلى النص القرآني تفهّما وتعقّلا وتفقّها دون حاجة للفقيه الوسيط الذي يتكلّم بإسم الله ليحلّل ويحرّم حسب تأويله وفهمه (محمد الطالبي يذكّر دوما أنّ الشافعي بدأ وضع أصول الشريعة بعد قرنين من الوحي)، والمسلم القرآني هو الذي يتعامل مع النص القرآني بكل وثوقيّة بإعتباره وحيا مطلقا من عند الله حرفا ومعنى (وهنا الطالبي يختلف مع عبد المجيد الشرفي الذي يرى دور النبي في صياغة القرآن لفظا لمعنى تخمّر في الذات النبويّة)، أما السنّة بكل أحاديثها و"صحاحها" فهي محلّ شكّ ونظر وفرز وليست محل نفي مطلق كما يشاع والقاعدة هي: كل ملفوظ نبوي في مدونة الحديث يتعارض مع النص القرآني هو نصّ موضوع لا قيمة له مهما كان محتواه من حيث المعاملات أو الأحكام.
إنّ الهجمة التي تعرّض الدكتور محمّد الطالبي في إجتهاده القرآني تصدر عن ثلاثة جهات:
المؤسّسة الدينيّة: هي المؤسّسة التي تحتكر الحديث بإسم الله والقرآن، تُمارس وصاية على النص قراءة وتأويلا، وتفرض قداسة على رجال النص من كتبته إلى قرّاءه إلى الصحابة فالتابعين وتابعي التابعين وصولا لتقديس شيوخ التفسير والتأويل من رجال الدّين، لذلك إنبرى شيوخ الزيتونة ومشيخة الأزهر والحوزة الشيعيّة ومؤسسة الإفتاء في الديار السنيّة إلى الهجوم على محمد الطالبي بدرجات متفاوتة بين التّسفيه والرمي بالجنون والهلوسة إلى التفسيق والتكفير. 
الإسلام السياسي: أغلب طيف الإسلام السياسي يمارس نوعا من المهادنة مع المؤسسة الدينيّة وعدم معاداتها يقينا منهم بمنزلتها الإعتباريّة والإعتقادية، لكن الإسلام السياسي يجد نفسه في عداوة مباشرة مع المفكّرين الذين يتناولون الدين وفق مقاربة علميّة، لأن المقاربة العلميّة تدحض التوظيف الدّيني الذي تمارسه حركات الإسلام السياسي وهذا ما يبرّر هجوم الأدوات الإعلامية والسياسية لحركة النهضة الإسلامية على أفكار محمّد الطالبي، فأحد رموز الإسلام السياسي في تونس عبد الفتّاح مورو يدعو مباشرة للتحجير على محمد الطالبي، هو تحجير على العقل ليبقى له المجال فسيحا لبثّ خرافات مجد الإسلام وعظمته التمجيديّة من خلال منابر المساجد.
أشباه الباحثين: وعليّ أن أصفهم بالباحثين العاجزين عن مجاراة النسق العلمي الإجتهادي لمدرسة "الإسلاميات التطبيقيّة"(التسمية لمحمد أركون) التي من رموزها محمد أركون وعبد المجيد الشرفي ومحمد الطالبي..، هؤلاء أشباه الباحثين ظلّوا أوفياء للمدرسة الكلاسيكيّة في دراسة الإسلام ضمن مقاربة وصفيّة تمجيديّة يسيطر عليها المخيال والمحاكاة، ومثلهم لن يستطيع أن يلج عالم التجديد الدّيني أو أن يقدّم إضافة للعقل الإسلامي الذي يعاني تشوّهات الجمود والعجز.
هم ثلاثة روافض للتجديد والإجتهاد العقلي، القاسم المشترك بينهم هو العجز والوصاية على الذّات الإلهية، وإحتكار المعرفة بكتاب الله في القراءة تفسيرا وتأويلا عبر وسائط علميّة مرّ عليها أكثر من عشرة قرون، ولعلّ المناظرات التي جرت بين محمد الطالبي وبعض رجال الدّين كانت خير دليل على جهل معرفي كبير لدى المؤسسة الدينيّة الرّسميّة والإسلام السياسي وهو ما جرّهم للتشنّج أزال هيبة عمائمهم.
روافد التجديد والإجتهاد
لن ندخل في الخلاف التفسيري الفقهي الألسني لحكم شرب الخمر أو تعاطي البغاء في تحليله أو تحريمه، ولكنّنا ننظر للمسألة من زاوية فكرية سياسية تتعلّق بدوافع إثارة هذه المسألة وتفسير عنف ردّة الفعل تجاه طرحها:
أولا: إنّ إثارة هذه المسألة تصدر من قامة علميّة من طينة المفكّر محمّد الطالبي، ومهما إختلفنا مع تصوّراته فإنّ الرجل على دراية كبيرة بالنص والتفسير والتأويل علما وإجتهادا، ومع ذلك فهو لا يُنصّب نفسه مفتيا أو رجل دين، بل هو رجل علم و"دينه الحريّة"، يعتقد أن القرآن ربّاني إلاهي ناطق بذاته، وأنّ الشريعة بشريّة مؤسساتيّة تشرّع بإسم الرب، فالثابت هو القرآن حقيقة مطلقة، والشريعة هي نزعات ذاتية وجماعية نسبيّة تاريخيّة.
ثانيا: يستند التجديد والإجتهاد إلى مفهوم العقل والتعقّل ضمن مقاربة تفهّميّة للنص في تنزيله قبل تأويله، إنّ هذا العقل هو الذي حصّل من علوم الإنسان في مجال الانتربولوجيا والسوسيولوجيا واللسانيات والأركيولوجيا.. ما يجعله قادرا على إعادة إنتاج المعنى والخروج من الجمود المعرفي والتأويل المسلّم به، ونعتقد أن تأخير العقل في مصادر التشريع هو الذي جمّد القرآن وأسقط عن تاريخيّته.
ثالثا: بعيدا عن الضجيج الإعلامي وحديث عامة النّاس في الجدل حول حرمة الخمرة من تحليلها أو البغاء ودناسته، كان لمحمد الطالبي شرف نقل الجدل العلمي من سياقاته المعرفية المغلقة لدى نخبة فكرية علميّة معزولة عن العامة/الناس/المواطنين إلى سياق أوسع لكل من ينتمون للثقافة الإسلامية، ومثل هذا التحوّل يفترض بالضرورة صدمة للضمير الإسلامي الواقع تحت ضغط القداسة والتحريم والتجريم، فيحضر التفجير حين يغيب التفكير.
لست من أنصار أبي حامد الغزالي الذي كتب "إلجام العوام عن علم الكلام"، فمتى ألجمنا العامة/النّاس/المواطنين عن الخوض في المعتقدات والعقائد سيظلّ العقل سجين الجمود رهين نخبة معزولة عن المجتمع، ويبدو لي أن كلمات محمّد الطالبي حرّكت تلك البركة الراكدة المتعفّنة التي لا تنتج سوى الخرافة والتكفير والتفجير، بل إنّ ما يذهب إليه محمّد الطالبي لا يقاس في جسارته وفرادته وجدّته بالقضايا الفكرية والعقائدية التي طرحها علماء الكلام ومفكّرو القرنين الثالث والرابع للهجرة (عصر الأنسنة كما يسميه محمد أركون)، ومع ذلك فإنّ عنف ردّة الفعل التي لقيتها آراء الطالبي شرقا وغربا تعبّر عن حجم التحجّر الذي أمسى العقل الإسلامي يعيشه في هذه اللحظة التاريخيّة الفارقة. 
إنّ العقل اليوم مطالب بأن يخوض حروبه ضد الجهل والمقدّس الخرافي للفقهاء ورجال الدين والفتوى، وأن نجد تلك القطيعة المعرفيّة مع موروث جامد يجثم على رقابنا تحت رقابة من نصّبوا أنفسهم رجال الدين سواء تعلّق الأمر بالمؤسسة الدينيّة الرسميّة أو بالإسلام السياسي الذي يبتذل المعطى الدّيني ليكون: زادا للمتساهل بحكم براغماتيته، وزادا للمتشدّد بحكم أوهامه في إعادة الخلافة المقدّسة بالحديد والنّار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق