الأحد، 19 أبريل 2015

عبيد خليفي: محمد الطالبي، التجديد الديني بين الروافض والدّوافع

محمد الطالبي: التجديد الديني بين الروافض والدّوافع



في الثالثة والتسعين من العمر لا يزال المفكّر محمّد الطالبي يفكّر وينتج معرفة بعد حصيلة قوامها 28 كتابا وأكثر من 300 دراسة علميّة أكاديميّة، لكنّ الفارق اليوم أنّ محمد الطالبي خرج من أسوار الجامعة ومراكز البحوث والمنتديات الفكريّة ليصدم الرأي العام بآراء وأفكار بلبلت ما يُعتقد أنّها من "ثوابت المسلم"، وقد كان محمّد الطالبي قد مهّد لهذه الصدمة بتأسيس "الجمعيّة الدوليّة للمسلم القرآني"(21 مارس 2013) في ظرف تاريخي تميّز بعدّة خصائص أهمّها إندلاع ما يسمى بثورة الربيع العربي وصعود الإسلام السياسي لسدّة الحكم، وإنتشار الإسلام الجهادي، وبداية تشكّل تنظيمات الدولة الإسلامية في العراق والشام، في لحظة تاريخيّة إشتدّ فيها الصراع المذهبي والفتنة الطائفيّة ليتصدّر شيوخ الدّين والفتوى المشهد السياسي والساحة الإعلاميّة.
روافض التجديد والإجتهاد
كان لتأسيس الجمعية الدوليّة المسلمين القرآنيين نقاش محدود في مستوى النخب السياسيّة والنخب العلميّة الأكاديميّة ليبلغ درجة الفتنة التي أثارها "منشور الجمعية حول حكم الخمر في القرآن"، ولا يبدو هذا المنشور شذوذا عن أهداف الجمعية: فالمسلم القرآني هو المسلم الذي يُحدث قطيعة مع الشريعة الإسلامية التي وضعها الفقهاء وعلماء الدين وأن يعود إلى النص القرآني تفهّما وتعقّلا وتفقّها دون حاجة للفقيه الوسيط الذي يتكلّم بإسم الله ليحلّل ويحرّم حسب تأويله وفهمه (محمد الطالبي يذكّر دوما أنّ الشافعي بدأ وضع أصول الشريعة بعد قرنين من الوحي)، والمسلم القرآني هو الذي يتعامل مع النص القرآني بكل وثوقيّة بإعتباره وحيا مطلقا من عند الله حرفا ومعنى (وهنا الطالبي يختلف مع عبد المجيد الشرفي الذي يرى دور النبي في صياغة القرآن لفظا لمعنى تخمّر في الذات النبويّة)، أما السنّة بكل أحاديثها و"صحاحها" فهي محلّ شكّ ونظر وفرز وليست محل نفي مطلق كما يشاع والقاعدة هي: كل ملفوظ نبوي في مدونة الحديث يتعارض مع النص القرآني هو نصّ موضوع لا قيمة له مهما كان محتواه من حيث المعاملات أو الأحكام.
إنّ الهجمة التي تعرّض الدكتور محمّد الطالبي في إجتهاده القرآني تصدر عن ثلاثة جهات:
المؤسّسة الدينيّة: هي المؤسّسة التي تحتكر الحديث بإسم الله والقرآن، تُمارس وصاية على النص قراءة وتأويلا، وتفرض قداسة على رجال النص من كتبته إلى قرّاءه إلى الصحابة فالتابعين وتابعي التابعين وصولا لتقديس شيوخ التفسير والتأويل من رجال الدّين، لذلك إنبرى شيوخ الزيتونة ومشيخة الأزهر والحوزة الشيعيّة ومؤسسة الإفتاء في الديار السنيّة إلى الهجوم على محمد الطالبي بدرجات متفاوتة بين التّسفيه والرمي بالجنون والهلوسة إلى التفسيق والتكفير. 
الإسلام السياسي: أغلب طيف الإسلام السياسي يمارس نوعا من المهادنة مع المؤسسة الدينيّة وعدم معاداتها يقينا منهم بمنزلتها الإعتباريّة والإعتقادية، لكن الإسلام السياسي يجد نفسه في عداوة مباشرة مع المفكّرين الذين يتناولون الدين وفق مقاربة علميّة، لأن المقاربة العلميّة تدحض التوظيف الدّيني الذي تمارسه حركات الإسلام السياسي وهذا ما يبرّر هجوم الأدوات الإعلامية والسياسية لحركة النهضة الإسلامية على أفكار محمّد الطالبي، فأحد رموز الإسلام السياسي في تونس عبد الفتّاح مورو يدعو مباشرة للتحجير على محمد الطالبي، هو تحجير على العقل ليبقى له المجال فسيحا لبثّ خرافات مجد الإسلام وعظمته التمجيديّة من خلال منابر المساجد.
أشباه الباحثين: وعليّ أن أصفهم بالباحثين العاجزين عن مجاراة النسق العلمي الإجتهادي لمدرسة "الإسلاميات التطبيقيّة"(التسمية لمحمد أركون) التي من رموزها محمد أركون وعبد المجيد الشرفي ومحمد الطالبي..، هؤلاء أشباه الباحثين ظلّوا أوفياء للمدرسة الكلاسيكيّة في دراسة الإسلام ضمن مقاربة وصفيّة تمجيديّة يسيطر عليها المخيال والمحاكاة، ومثلهم لن يستطيع أن يلج عالم التجديد الدّيني أو أن يقدّم إضافة للعقل الإسلامي الذي يعاني تشوّهات الجمود والعجز.
هم ثلاثة روافض للتجديد والإجتهاد العقلي، القاسم المشترك بينهم هو العجز والوصاية على الذّات الإلهية، وإحتكار المعرفة بكتاب الله في القراءة تفسيرا وتأويلا عبر وسائط علميّة مرّ عليها أكثر من عشرة قرون، ولعلّ المناظرات التي جرت بين محمد الطالبي وبعض رجال الدّين كانت خير دليل على جهل معرفي كبير لدى المؤسسة الدينيّة الرّسميّة والإسلام السياسي وهو ما جرّهم للتشنّج أزال هيبة عمائمهم.
روافد التجديد والإجتهاد
لن ندخل في الخلاف التفسيري الفقهي الألسني لحكم شرب الخمر أو تعاطي البغاء في تحليله أو تحريمه، ولكنّنا ننظر للمسألة من زاوية فكرية سياسية تتعلّق بدوافع إثارة هذه المسألة وتفسير عنف ردّة الفعل تجاه طرحها:
أولا: إنّ إثارة هذه المسألة تصدر من قامة علميّة من طينة المفكّر محمّد الطالبي، ومهما إختلفنا مع تصوّراته فإنّ الرجل على دراية كبيرة بالنص والتفسير والتأويل علما وإجتهادا، ومع ذلك فهو لا يُنصّب نفسه مفتيا أو رجل دين، بل هو رجل علم و"دينه الحريّة"، يعتقد أن القرآن ربّاني إلاهي ناطق بذاته، وأنّ الشريعة بشريّة مؤسساتيّة تشرّع بإسم الرب، فالثابت هو القرآن حقيقة مطلقة، والشريعة هي نزعات ذاتية وجماعية نسبيّة تاريخيّة.
ثانيا: يستند التجديد والإجتهاد إلى مفهوم العقل والتعقّل ضمن مقاربة تفهّميّة للنص في تنزيله قبل تأويله، إنّ هذا العقل هو الذي حصّل من علوم الإنسان في مجال الانتربولوجيا والسوسيولوجيا واللسانيات والأركيولوجيا.. ما يجعله قادرا على إعادة إنتاج المعنى والخروج من الجمود المعرفي والتأويل المسلّم به، ونعتقد أن تأخير العقل في مصادر التشريع هو الذي جمّد القرآن وأسقط عن تاريخيّته.
ثالثا: بعيدا عن الضجيج الإعلامي وحديث عامة النّاس في الجدل حول حرمة الخمرة من تحليلها أو البغاء ودناسته، كان لمحمد الطالبي شرف نقل الجدل العلمي من سياقاته المعرفية المغلقة لدى نخبة فكرية علميّة معزولة عن العامة/الناس/المواطنين إلى سياق أوسع لكل من ينتمون للثقافة الإسلامية، ومثل هذا التحوّل يفترض بالضرورة صدمة للضمير الإسلامي الواقع تحت ضغط القداسة والتحريم والتجريم، فيحضر التفجير حين يغيب التفكير.
لست من أنصار أبي حامد الغزالي الذي كتب "إلجام العوام عن علم الكلام"، فمتى ألجمنا العامة/النّاس/المواطنين عن الخوض في المعتقدات والعقائد سيظلّ العقل سجين الجمود رهين نخبة معزولة عن المجتمع، ويبدو لي أن كلمات محمّد الطالبي حرّكت تلك البركة الراكدة المتعفّنة التي لا تنتج سوى الخرافة والتكفير والتفجير، بل إنّ ما يذهب إليه محمّد الطالبي لا يقاس في جسارته وفرادته وجدّته بالقضايا الفكرية والعقائدية التي طرحها علماء الكلام ومفكّرو القرنين الثالث والرابع للهجرة (عصر الأنسنة كما يسميه محمد أركون)، ومع ذلك فإنّ عنف ردّة الفعل التي لقيتها آراء الطالبي شرقا وغربا تعبّر عن حجم التحجّر الذي أمسى العقل الإسلامي يعيشه في هذه اللحظة التاريخيّة الفارقة. 
إنّ العقل اليوم مطالب بأن يخوض حروبه ضد الجهل والمقدّس الخرافي للفقهاء ورجال الدين والفتوى، وأن نجد تلك القطيعة المعرفيّة مع موروث جامد يجثم على رقابنا تحت رقابة من نصّبوا أنفسهم رجال الدين سواء تعلّق الأمر بالمؤسسة الدينيّة الرسميّة أو بالإسلام السياسي الذي يبتذل المعطى الدّيني ليكون: زادا للمتساهل بحكم براغماتيته، وزادا للمتشدّد بحكم أوهامه في إعادة الخلافة المقدّسة بالحديد والنّار.

عبيد خليفي: حادثة تشارلي هبدو، الوقيعة والذّريعة


حادثة تشارلي هبدو: الوقيعة والذّريعة




عندما تهدأ الإنفعالات يبدأ التفكير في الإحتمالات..
حبس العالم أنفاسه على وقع مجزرة آلصحيفة الفرنسيّة "تشارلي هبدو" يوم الاربعاء 7 جانفي 2015، والتي راح ضحيّتها 12 قتيلا، وبعد المطاردة الأمنية في ضواحي باريس تمكّن المتهمون الثلاثة في العمليّة من الإستيلاء على مركّب تجاري يهودي ليحتجزوا عددا من الرهائن، وانتهت العمليّة بالقضاء على المحتجزين وسقوط خمسة قتلى من الرهائن، هو إعتداء عاديّ في السياق العام لزمن المواجهة مع القتل والإرهاب، وبالقياس لكمّ الموت والقتل في المناطق الساخنة شرقا وغربا، ولكنّ الحدث يبدو إستثنائيّا وهو يخترق الفضاء الأوروبي الغربي الذي يفترض أنّه إختار أن يخوض معاركه ومصالحه في المجال الجغرافي الآخر: الشرق الأوسط وإفريقيا.
خرجت فرنسا في مسيرة مليونيّة سمّتها "مسيرة الجمهورية لمناهضة الإرهاب"، حضرها أكثر من 50 زعيم دولة، فهرول الأوروبيون لهذه المسيرة يقينا منهم بتلازم المسار في مواجهة "الإرهاب الإسلامي" من جهة، وتلازم المصير الإتحادي لدول أوروبّا، وهو أيضا من باب التضامن الأوروبي، كما هرول القادة العرب خائفين مذعورين من باب التكفير عن الخطيئة وإعلان البراءة من عنف إرهابيّ تأصّلت تهمته تجاه العرب والمسلمين، ولعلّ الحضور العربي كان أشبه بالإعتذار عمّا إقترفته أيادي الإبن الضال، هي عقدة التبعيّة والشعور بالذنب الأبدي.
وحضرت إسرائيل وهي أكثر المستفيدين من هذه المجزرة لتوجّه ضغطا سياسيّا تجاه الجميع: تجاه العرب بوصفهم إرهابيين، وتجاه الغرب الأوروبّي الذي مازال يحفظ بعضا من ماء الوجه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وقد تسرّبت بعض المعلومات التي تؤكّد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي فرض حضوره على الرئيس الفرنسي هولاند في هذه المسيرة، فما كان من الرئيس الفرنسي إلاّ أن وجّه الدّعوة بشكل عاجل للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس لحضور المسيرة لرفع الحرج الذي قد يتسبّب فيه حضور نتنياهو، وذهب نتنياهو لفرنسا داعيا يهود أوروبّا للهجرة نحو إسرائيل القادرة وحدها على تأمين حياتهم بما في ذلك من إهانة لفرنسا ولقدراتها الأمنيّة، كما مارس ضغطا على عائلات الضحايا اليهود ليدفن القتلى في القدس وتلعب بذلك إسرائيل دور المظلوميّة والضحيّة. 
هل كانت المذبحة ثمنا لتلك السخرية؟ كانت صحيفة "شارلي هبدو" الفرنسيّة قد تخصّصت في الرسوم الكاريكاتوريّة الموجّهة لكل المقدّسات السياسيّة منها وخاصّة الدّينيّة، ولكنّها راحت تتخصّص أكثر في هدم صورة النّبيّ المقدّس، ولئن كان الذّوق الغربي الأوروبي قد إستساغ الصّورة الهزليّة لأنبياء بني إسرائيل خاصّة موسى وعيسى فإنّ الإقتراب من نبيّ المسلمين محمد كان أشبه باللّعب بالنّار في ظل ظرف دوليّ إشتدّ فيه الصّراع بين المسلمين والغرب، وكان ذروته أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من حروب على الإرهاب وغزو لأفغانستان والعراق.. بل إنّ مجريات الأحداث خلال العشريّة الفارطة تشير إلى أنّ هذا الصراع سيتواصل عهودا وأن بتلوينات مختلفة يخفي صراع المصالح نفطا وسلاحا.
كانت الصحيفة الفرنسيّة "شارلي هبدو" قد تعرّضت لعدة تهديدات سنة 2006 على خلفيّة نشرها لصور كاريكاتوريّة ساخرة من نبيّ الإسلام محمد، لكنّ تلك التهديدات لم تتحقّق إلا بعد خمسة سنوات في حادثة حرق مقرّ الصحيفة في نوفمبر 2011 وهو ما عدّته الحكومة الفرنسيّة فعلا عدائيّا مدبّرا، وعادت الصحيفة سنة 2012 لتنشر دفعة أخرى من تلك الصور الساخرة من النبي محمد، في ظل تفجّر الأوضاع في المنطقة العربيّة وصعود الإسلام السياسي للحكم في تونس وليبيا ومصر من جهة، وبداية تشكّل الإسلام الجهادي تجميعا لإرث تنظيم القاعدة في المنطقة العربيّة وتشابك خلاياه مع أنصاره في أوروبا، وللتذكير فإنّ الصحيفة الفرنسيّة لم تبتدع هذه الرسوم الساخرة، ولكنّها سارت خلف مبادرة الصحيفة الدانمركية "يولاندس بوسطن" 
وكانت صحيفة "يولاندس بوسطن" الدانمركية، أول من أثارت أزمة الرسوم المسيئة للنبي سنة 2005، حيث خرج ملايين المتظاهرين في شتى أنحاء العالم الإسلامي منددين بالصحيفة، قبل أن تعلن صحيفة "شارلي هبدو" تضامنها مع نظيرتها الدانمركية وأعادت نشر الرسوم المسيئة بالإضافة إلى رسوم كاريكاتيرية أخري استفزت مشاعر المسلمين، رغم أنّ الصحيفة الدانمركيّة كانت قد أعلنت أنها لن تنشر هذه الصور في المستقبل، ولا يجب أن ننسى أن أهم مرصد أوروبي للميز العنصري قد قام بمتابعة الصحيفة الدنماركيّة لمدّة ثلاثة أشهر وخلص إلى أن هذه الصحيفة لم تنشر الصور الساخرة من النّبي محمد من باب حريّة التعبير والإعتقاد وإنّما من باب نشر الكره والميز العقائدي العنصري، والأمر نفسه يقاس على الصحيفة الفرنسيّة، ولذلك يجب أن ننظر لهذه المسألة من زاوية سياسيّة صرفة مرتبطة بنظرة الآخر الغربي للإنسان العربي المسلم: عمامة وسلاح وجارية.
أعتقد أن مجزرة شارلي هبدو تُخفي صراعا حضاريّا حقيقيا نحاول طمسه تحت عنوان الحوار بين الحضارات ومقولات التّسامح والسلام العالمي، هو صراع دينيّ تخترقه تناقضات المصالح الإقتصاديّة لمفهوم السيطرة والتبعيّة والنفوذ الغربي على المنطقة العربيّة بما تحتويه من مقدّرات نفطيّة وسوقا مفتوحة لمنتجات السلاح الغربي، ومن ثمّ ستكون المنطقة العربيّة منطقة توتّر لأجيال لاحقة فتكون مخبرا حقيقيّا لحروب الوكالة بين الأمم، ولا ننسى أنّ المنطقة العربيّة تقع على تخوم ثلاثة قوميات فاعلة وهي الفرس والأتراك واليهود (كقوميّة دينيّة)، والبعيد الكامن في الصراع كحلقة أوسع جغرافيّا هي: أوروبّا وأمريكا وروسيا.
إنّ ظاهرة الرسوم الساخرة من النّبي محمد هي قادح لتحريك مسار الحروب والنّزاعات الإقتصاديّة، فأن يكون الإعتداء في فرنسا بالذّات فلا تفسير سوى إخراج هذه الدولة من سياقها الوطني الدّاخلي نحو حرب توسّعيّة لتحريك تجارة السلاح وتأمين منابع النفط، وبذلك تكون المنطقة العربيّة واقعة تحت ضغط ثالوث: النفط والسلاح وإسرائيل، فالشتات الذي يعيشه العالم العربي يؤسّس لحضور هذا الثالوث، ولئن كانت إسرائيل هي الحافز لتنشيط الترابط العضوي بين النفط والسلاح لفترة ما قبل معاهدات السلام بينها وبين دول الجوار وخاصة المبادرة العربيّة، فإنّ "الإرهابي" هو البديل الفعلي لذلك العدوّ الأزلي بالنسبة للغرب والأنظمة العربيّة التابعة لها.
يختزل الواقع العربي شعورا متضخّما بالخطيئة إزاء ملفّ الإرهاب، فهو لم يتخلّص بعد من عقدة 11 سبتمبر، ذلك الحدث الذي مثّل فارقة في تاريخ الصّدام بين ثقافتين وحضارتين متناقضتين من حيث المصالح والطموحات، كان على العرب أن يعتذروا عن فعل عدائي أنجزه شباب عربيّ بعقيدة إسلاميّة تجاه أمريكا خلّف أكثر من ثلاثة ألآف قتيل، وما كان للغرب أن يعتذر عن حقبة إستعماريّة أو الحروب التي زرعت الموت في الشرق الأوسط ومناطق التوتّر العربيّة، والتدخّل السافر في شؤون البلدان العربيّة، فتلك الأنظمة العربيّة هي التي تسبّبت في ظهور جيل التّكفير والتّفجير عبر منظومة تعليميّة فاشلة، وعبر سياسات تنمويّة أفشل همّشت الإنسان المسلم وقتلت فيه روح المواطنة والديمقراطية والطموح والعمل السياسي..
إنّ الفجيعة التي يعيشها حكّام العرب أو حتّى بعض المثقّفين العرب تجاه كل قطرة دم غربيّة تسيل تحت وقع الضربات الإرهابيّة لا نجد لها مبرّر سوى عقدة الخطيئة والتكفير عن الذّنب والشعور بالدّونيّة، وصار اليقين أنّ العالم العربي والإسلامي هو صانع الإرهاب الأعمى عجزا وخوفا، وهو ما يبرّر إصطفاف هؤلاء الحكّام خلف كل مشروع أو حملة أو غزو لمقاومة الإرهاب، دون تحديد واضح لمفهوم الإرهاب، فالآخر هو الذي يحدّد مفهوم الإرهاب ووسائله وأمكنته وما على النظم العربيّة سوى تحمّل تبعات إستراتيجيا المواجهة التي يخطّط لها العالم الغربي ويتحكّم في مساراتها. 
والطريف في الأمر أنّ الأنظمة العربيّة التي سارعت للتنديد بمجزرة شارلي هبدو هي أكثر الأنظمة محاربة لحريّة التعبير عبر تنفيذ الأحكام الدّينيّة المشوّهة تجاه الصحفيين والمعارضين والكتاب والمثقفين، وكما قال إبن خلدون "المغلوب مُولع أبدا في الإقتداء بالغالب"، ومنطق الغلبة فرض عليهم التّبعيّة دون أن يفرض عليهم الإقتداء والتقليد، هي أنظمة عجزت عن فهم ظاهرة التطرّف الدّيني رغم أنها ساهمت في نشأتها وانتشارها، فقد فشلت الدولة الوطنيّة في الأقطار العربيّة في ترسيخ مقوّمات الحداثة والمواطنة والعدالة الإجتماعيّة فقتلت روح التحرّر لدى أجيال من المثقفين والشباب، ودفعت شقّا كبيرا نحو حمل السلاح لمواجهة الأنظمة الكليانيّة في مرحلة أولى ومواجهة الأنظمة الداعمة لها في مرحلة ثانية، وخاضت هذه الجماعات حروبا بالوكالة في المجال الجغرافي العربي والإسلامي.
إنّ الشعور بالخطيئة ومحاولة التكفير عن ذنب التطرف الدّيني العربي والإسلامي هو الذي يجعل الانظمة العربيّة تخجل حتى من دعم أيّة محاولة للتحرّر في فلسطين والمنطقة العربيّة، وهي مستعدّة ليس للتعاون فقط لمحاربة الإرهاب العالمي ولكن أن تجعل مجالها الجغرافي مسرحا لتلك المعركة، وتصبح المناورات المشتركة بين الأنظمة العربية والحلف الأطلسي بحضور الكيان الإسرائيلي أمرا مبرّرا من أجل مقاومة الإرهاب، وهذه الإستراتيجيا هي التّي ستخلق تنظيم "داعش" أو ما يسمى بالدولة الإسلامية ككائن هلامي يجب محاربته في كل الإتجاهات ولو بصداقة مع عدوّ الأمس.
نجحت إسرائيل في بلبلة المفاهيم السياسيّة الأخلاقية، فمارست نوعا من الإنزياح بمفهومي الضحيّة والقاتل، والمقاومة والإرهاب، فتحوّلت من سرطان مغروس في الجسم العربي يريد أن يفتك به إلى وردة تحاصرها الأشواك تكاد تقتلها، وفي حادثة شارلي هبدو بزخمها الفعلي والإعلامي وظّفت إسرائيل كل إمكانياتها ونفوذها لتستفيد من فعل عدائيّ واقع خارج مجالها الجغرافي والسياسي، فأثبتت قوّتها ونفوذها تجاه فرنسا بحضور المسيرة رغما عن هولاند الذي طلب من نتنياهو عدم الحضور، واستثمرت إسرائيل تلك المذبحة لتلعب دور الضحيّة وتمارس الإبتزاز السياسي تجاه الغرب، ولتبرير كل المجازر التي إرتكبتها إسرائيل تجاه الفلسطينيين أو العرب عموما.
إنّ ضعف الأنظمة العربيّة الناتج عن غياب الديمقراطيّة وفقدان المشروعيّة الشعبيّة هو الذي يمنح إسرائيل كل تلك القوّة في فرض نفوذها على العالم الغربي، وحدها لبنان بديمقراطيّة طائفيّة تمتلك هامشا من المقاومة المسنودة إقليميّا (حزب الله)، وخلال عقود من حروب التحرير في المنطقة العربيّة توّجتها الملحمة الفلسطينيّة إرتسمت للعربي صورة المقاوم الثائر المجاهد يكتسب تعاطفا شعبيّا في كل أصقاع العالم، وتلك الصّورة كانت كابوسا للكيان الإسرائيلي بإعتبارها رديفا لمشروعية حمل السلاح ولو بذريعة دينيّة إسمها الجهاد، لكنّ ميوعة مشهد المواجهة اليوم بكلّ الإنحرافات التي عرفتها الحركات الإسلاميّة المسلّحة هي التي تعطي الذّريعة للآخر كي يرمي المقاومة في سلّة الإرهاب.
لم تكن فرنسا بمنأى عن تهديد الجماعات الجهاديّة خلال العشريّة الأخيرة، وذلك لتنامي دورها العسكري لكبح جماح الطموح العسكريّ الأمريكيّ والبريطاني، ولا تكاد فرنسا تخرج من صورتها التاريخيّة باعتبارها دولة عظمى لها من القوّة العسكريّة ما يحفظ لها وزنها الدولي، شريعتها في ذلك التدخّل العسكري للحفاظ على مصالحها وخاصة إذا تعلّق الأمر بمناطق نفوذها التاريخي في إفريقيا، مع أنّ تدخّلاتها العسكرية دائما ما تجد معارضة من الرأي العام الفرنسي، وتعدّ مجزرة شارلي هبدو الذّريعة السياسية لتدخّل عسكري فرنسي في مجالات النفوذ التاريخي، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي هولاند ثلاثة أيام بعد عملية شارلي هبدو من ضرورة توجيه ضربات عسكريّة وقائيّة لأماكن تمركز الجماعات الإرهابيّة، وأظنّه يلمّح مباشرة لليبيا.
الحوار المتمدن-العدد: 4708 - 2015 / 2 / 2 

الاثنين، 20 يونيو 2011

لعنة المناشدة: إذهبوا فأنتم الطُّلقاء

عن المناشدة والمناشدين أستحضر أسماء عديدة منها الفنان لطفي بوشناق وهو يستعدّ ليفتتح مهرجان قرطاج الصيفي،وعالم الإجتماع عبد الوهاب بوحديبة مدير بيت الحكمة.. أنا لا أستطيع أن أنكر موهبة لطفي بوشناق فنانا مبدعا، ولا قدرات عبد الوهاب بوحديبة المعرفيّة في ميدان علم الإجتماع.. لكنّني رغم ذلك لا أستطيع أن أنسى 50 ألف سجين سياسي وأكثر من 300شهيد وآلاف الجرحى.. لا أستطيع أن أقفز على تضحيات شعب وأغفر لهم هذه الفعلة الوضيعة وهم يناشدون ديكتاتورا كي يحكمنا مدى الحياة ولذلك تعالت الأصوات من رحم الشعب ترفض لطفي بوشناق مفتتحا لمهرجان قرطاج.. وجاء تعيين الدكتور محمد الطالبي على رأس بيت الحكمة خلفا لمن سكت 23 سنة عبد الوهاب بوحديبة..

هي لعنة المناشدة التي أصابت العديدين حين ضاعت بوصلتهم، ودخلوا مرحلة اليأس إن لم نقل العهر الفنّي والفكري والسّياسي.. فلا قيمة لفنّهم وعلمهم وانجازاتهم إن لم يقترن بالتفاؤل في إمكانية التغيير الجوهري والثوري... ومن لم يحترم شعبا عليه أن يأخذ وجهه ويرحل عنه.. هكذا فعل بن علي وهكذا يجب أن يفعل المناشدون.. وحتّى لا أكون متطرّفا عليهم أن يصمتوا فالوطن يتّسع لهم كي يعيشوا حميرا وبقرا يأكلون وينعمون ولا ينغّصون علينا ثورتنا.. ولا يتآمرون عليها

نحن شعب مسالم إذ لم ننصب المشانق لبقايا الديكتاتوريّة.. وقنا لهم كما قال النبي محمّد لكفّار قريش "إذهبوا فأنتم الطلقاء.." أطلقناهم وطلّقناهم ليسيحوا في الأرض سالمين.. كم عدّتهم؟؟ 15 ألف مناشد لبن علي 2014.. هذا عدد ليس كبيرا على ثورة سيسجّلها التاريخ في هذا الرّبيع العربي الذي هزّ العالم... نفس العدد هو عدد الذين تقلّدوا مناصب في الحزب الحاكم البائد... ليس عزيزا على ثورة أن تقصي 30 ألفا من التخطيط لمستقبل البلاد بعد نصف قرن من الديكتاتورية البغيظة

المناشدة موقف.. ومن ناشد كان ينتظر تكريما وجزاء من بن علي هو الرّضا والعطاء.. وعليه أن يتحمّل نتائج موقفه من العطاء إلى الإقصاء.. أليست هذه هي الديمقراطية حين راهنوا على طرف إنهزم وهرب ذليلا... فليدهبوا طلقاء ولا يحاولوا أن يعودوا فسيّدهم رحل تاركا لهم ذلّ السنين.. ونحن شعب عظيم رحيم حين لم نجرّمهم ولم نحاسبهم على المناشدة بالسجن وتركنا التّاريخ يكتب أسماء المناشدين والمناشدات على ورق مصنوع من بقاياروث البغال والحمير

عبيد خليفي

17/06/2011

الأحزاب والإنتقال الديمقراطي

لا تفكّر الأحزاب اليوم إلا في الإنتخابات، ويغيب عن تفكيرها مفهوم الإنتقال الديمقراطي.. هي لا تدرك أنّ الإنتخابات ليست قطيعة مع العهد السابق.. الانتخابات جزء بسيط من مرحلة الإنتقال الديمقراطي التي قد تصل حسب بعض التجارب والخبرات إلى جيلين أي تقريبا أربعين سنة ومن أمثلة ذلك تجربة رومانيا، فمرحلة الانتقال الديمقراطي تعني التحوّل العميق من الديكتاتورية المطلقة نحو الديمقراطية المطلقة.. نحتاج سنوات عدة لتحقيق العدالة الانتقالية والإصلاح الهيكلي للمنظومة الأمنية وإصلاح عميق لمفهوم الإعلام ووظيفته

والقضاء على الفساد وإن التفكير في الإنتخابات في حد ذاتها والدخول في صراع مفرد مفرط بين الأحزاب إلى درجة التشتّت والتناحر يؤدي بنا نحو بتر عملية الانتقال الديمقراطي من سياقها التاريخي فترتدّ الثورة على ذاتها نكسة قد تتولّد عنها ديكتاتوريّة جديدة ولنا في التجربة الروسية مثال صارخ إذا قيست بتجربة جنوب إفريقيا بعد حكم الميز العنصري.. سنأخذ مثالا بسيطا عن ذلك في مفهوم العدالة الإنتقالية التي ترتكز على ثلاثة مقوّمات: 1المصارحة، 2 المحاسبة، 3 المصالحة، نجد بعض الأحزاب وبعض المواقف التي تتحدّث عن المصالحة قافزة عن مفهوم المحاسبة، فكيف يمكن أن نتصالح قبل أن نتصارح بأخطاء الماضي ونحاسب الجلاّدين وفي طور المصالحة يمكن للضحيّة أن يعفو ويسامح جلاّده.. إنّ العدالة الإنتقاليّة اليوم في ظلّ منظومة قضائيّة فاسدة لا تستقيم قبل إصلاح جهاز القضاء في علاقة وطيدة بحريّة الإعلام الذي مازال يخضع للتعليمات والتي من مهامه أن يكشف الحقائق المسكوت عنها.. كل ذلك في علاقة بالجهاز الأمني البوليسي الذي إرتكب الفضاعات والجرائم وهيكلة هذا الجهاز واعادة إصلاحه يحتاج إرادة سياسيّة وبرنامجا عميقا للإصلاح

يؤلمني أن تلهث الأحزاب نحو سرعة إجراء الإنتخابات والبحث عن مكسب سياسي هشّ نستطيع أن نخسره في كلّ لحظة مادام الأجهزة الثلاثة: الأمن والقضاء والإعلام لم تتحوّل بعد نحو مفهوم المؤسّسة.. يعني أن التحوّل من مفهوم الجهاز إلى مفهوم المؤسّسة هو تحوّل في صلب عملية الإنتقال الديمقراطي التي لا يفترض أن نستعجلها والتي قد تدوم سنوات ولكن المهم أن تتوافق المجموعة ليس نحو ميثاق جمهوري ولكن نحو برنامج سياسي لترسيخ هذا لتحوّل الديمقراطي

عبيد خليفي 5جوان 2011

الأربعاء، 25 مايو 2011

عبيد خليفي: الإنتخابات بين التأجيل والتعجيل


مثلما كان متوقعا فقد أعلنت الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات عن تأجيل إنتخابات المجلس التأسيسي الوطني من 24جويلية إلى 16أكتوبر، لتندفع الأطراف السياسيّة نحو نقد عقيم حول ضرورة المحافظة على هذا التاريخ من عدمه عوض السّير قدما لمناقشة القضايا الجوهريّة التي تهمّ مصير الثورة والبلاد، لكنّ الحكومة لم تفاجئنا حين أعلنت رفضها للتأجيل لتظهر بمظهر الحريص على الوفاء بالإلتزام والمؤتمن على مصلحة الشعب، وفي نفس الوقت لكي تظهر الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات بمظهر المتآمر على مصلحة الشعب؟؟ وفي الحقيقة هذه الحكومة ومن يقف خلفها ومعها تدرك جيدا أن إشراف هذه الهيئة برئاسة كمال الجندوبي وفريقه إشرافا كاملا يقصي وزارة الداخلية ويسقط كلّ مخطّطاتهم ومؤامراتهم لكي يلتفّوا حول ثورة قدّمت الشهداء.
ويجد هذا التأجيل كلّ مبرّراته من خلال البيان الصادر عن الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات والتي تتلخّص في إستحالة الترتيب المادي والتقني واللوجستي للإنتخابات في هذا الظرف الوجيز والفاصل عن تاريخ 24 جويلية، ووفق الخبراء الدوليين تحتاج الإنتخابات إلى فترة زمنية لا تقلّ عن 16أسبوعا إلى 20 أسبوع للتحضير للعملية الانتخابيّة.
وما يمكن ملاحظته أنّ الأحزاب السياسية انقسمت إلى ثلاثة أراء بين موافق، ورافض، ومساير واقعي، فالموافق طالب منذ البداية أن يتم تأجيل الإنتخابات ربّما لحسابات سياسيّة تنظيميّة، ونعطي هنا مثال حزب العمّال الشيوعي التونسي الذي كان يرفض التوقيت أصلا ويعتبره غير مناسب للأحزاب والتيارات السياسية التي لم تتأهّل لخوض الانتخابات بشكل جماهيري، أمّا الشقّ الرافض للتأجيل فيمكن حصره في صنفين: صنف يعتدّ بقوّته ويعتبر أنّ التعجيل بالانتخابات سيمنحه ما كان ينتظر ويأمل، وأنا أتحدث هنا عن حزب حركة النهضة الذي يعتبر أن صفوفه الأكثر تنظيما وأنّ الظروف الرّاهنة مهيّأة له كي يحقّق نصرا سياسيا وضع له رهانات مادية وتعبويّة، والصف الثاني هم الرئاسويون أي رموز الأحزاب الذين لا يؤمنون أصلا بالمجلس التأسيسي ولا يعتقدون به ولم يكن المجلس التأسيسي مطلبا جوهريا في أطروحاتهم السياسيّة لعقود من الزّمن، بل يعتبرونه وسيلة للتربّع على كرسي الرئاسة حاسمين أصلا في مسألة النظام البرلماني أو النظام الرّئاسي لفائدة هذا الأخير، ويمكن إعتبار أحمد نجيب الشابي والمنصف المرزوقي خيرا مثال لهذا التصوّر الرئاسوي المغرق في النرجسية وحب الذّات.
التّأجيل تمديد للتوافق:
أعتقد أنّ تأجيل الإنتخابات خطوة لا بدّ منها إقتضتها قوانين اللعبة الديمقراطيّة، لكنّ هذا القرار الذي إتخذته الهيئة أربك الأحزاب الرافضة للتأجيل أكثر من غيرها، ولم يكن مسموحا لها أن تتّهم الهيئة العليا برئاسة السيد كمال الجندوبي بأنها خضعت لأجندة سياسيّة لأنّ الجميع يعرف مدى إستقلالية أعضاء الهيئة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى صدر هذا التأجيل عن هيئة منتخبة أنتخبت بدورها عن هيئة سياسيّة تمثّل أغلب التيارات السياسيّة، والطريف في الأمر أن الأطراف التي دعت إلى تأجيل الانتخابات لم تكن ممثلة في هذه الهيئة السياسيّة وهو حزب العمّال الشيوعي، والذي كادت أن تلفّق له تهمة بث الفوضى والبلبلة في الشارع من أجل إفشال موعد 24جويلية، لتجد بقية الأحزاب نفسها مرغمة على إقتراح صادر عن هيئة إنتخبتها بالإجماع تقريبا.
كان من المفروض أنّ تنتهي صلاحيات الرّئيس المؤقت والحكومة الإنتقالية بعد إنتخابات 24 جويلية مباشرة، وبعد قرار التأجيل يفترض أن تدخل الحكومة في حوار معمّق مع كل أطراف التوافق حول هذا التأجيل الذي يفترض أنّه تمديد لعمل هذه الحكومة، ولكن لا تخفي الأحزاب تخوّفها المشروع من هذه الحكومة، ولذلك يجب طمأنة الرأي العام بتقديم جملة من الضمانات المفصليّة:
أولا كبح جماح هذه الحكومة من خلال التوافق على بعد رقابيّ للهيئة العليا لحماية أهداف الثورة حتّى لا ترسّخ الحكومة أمرا واقعا لاهثة وراء شرعية سياسيّة تحاول أن تكتسبها وهي توجّه الرأي العام الوطني بمساعدة بعض الأحزاب نحو تاريخ 24 جويلية.
ثانيا يجب أن تتخذ الحكومة بتوصية من الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة جملة من التدابير الوقتية العاجلة في ثلاثة ملفّات محورية تمهّد المناخ الإنتخابي السليم أولها إصلاح المنظومة الأمنية، ثانيها إصلاح هيكلي لمنظومة الإعلام، وثالثا إنشاء هيكل مؤقت يصلح المنظومة القضائية.
وبين شرعية الهيئة المستقلة للإنتخابات والتي جاءت وفق انتخاب مباشر للهيئة العليا للحفاظ على أهداف الثورة وبين حكومة غير شرعيّة سيحتدم النقاش ويشتدّ بين الفرقاء الذين لا يكفّون عن إتهام بعضهم، وأعتقد أن خروج تنظيم الإنتخابات من عهدة هذه الهيئة بما تمثله من ضمانة الشفافية والإستقلالية والنزاهة فإنّنا لن نعيش تحوّلا ديمقراطيا جذريا يماهي ثورة 14 جانفي المجيدة.
عبيد خليفي 25/5/2011

الجمعة، 20 مايو 2011

رسالة: شكرا لدماء الشهداء، شكرا لكلّ الرجال الأوفياء


اليوم وبعد سنة ونصف من السّجن بين سجن قفصة ورجيم معتوق وقبلي، تلتها سنة ونصف من الحرمان في حق الشغل والرّقابة الأمنية المشدّدة وذلك من تبعات ملف انتفاضة الحوض المنجمي بالرديف والتي كنت واحدا ممّن قدّموا بعضا من الواجب نحوها، جاءت الثورة الشعبية لتمنحني حرّيتي وشغلي، هذا اليوم باشرت عملي أستاذا مساعدا متعاقدا في الجامعة التونسية للتعليم العالي، وإنّني أستذكر هنا الدّماء الزكيّة التي سالت في الرديف في جوان 2008 مرورا بسيدي بوزيد والقصرين وتالة وكل شبر عزيز من هذا الوطن، كما أقف إحتراما لكل المناضلين الذين آمنوا بالحريّة والكرامة وكانوا سندا قويّا ومتينا لنا منذ بداية معاناتنا في الحوض المنجمي أحزابا وصحفا ومنظمات وجمعيات ونقابيين وشخصيات حقوقية ومدنية وطبعا النساء في الرديف وكل تونس اللواتي قدّمن الكثير الكثير وعانين الكثير الكثير أقف اليوم إجلالا واحتراما لكل من ساندوني وآزروني وهم كثر كثر آمنوا بعدالة قضيتنا في الحوض المنجمي حتى جاءت الثورة لتثبّت إيمانهم وقناعاتنا بأن الشعب إذا أراد فحتما سيستجيب القدر إن معركة الحريّة مسارها طويل طويل ونحن في نصف الطريق وما تحقّق مكسب يحتاجنا معا لنصل خواتمه ونهاياته حرّية وكرامة ولنكن أوفياء لدماء الشهداء عبيد خليفي الرديف 4/4/2011

الاثنين، 27 ديسمبر 2010

إلى حسن بنعبد الله في سجنه... تحيّة جُحُود ونكران


إلى حسن بنعبد الله في سجنه

تحيّة جُحُود ونكران


وما وفّيناك حقّك لتعلم كم كنّا بؤساء ونحن ننظُرُ غيبتك عنّا وسجنك فينا..

تسعة أشهر من سجنك المُوجع، لا شيء يقضّ مضجعك وأنت تنام مُزهرا لثورة تخلّى عنها شعبها وذبحها أعداؤها، الرديف لم تستطع أن تنساك، ترابها، أنهجها، شوارعها، وساحاتها، فتياتها وفتيتها.. لم تكن خطيبا ولا فصيحا، كنت شاهدا وشهيدا على كرة الثّلج وهي تكبر ثمّ تكبر.. كبُرت الذّكريات وغابت معك الأمنيات..

حسن بن عبد الله الوجه الآخر لإنتفاضة الحوض المنجمي، للصّورة ظلّها المجهول، وأنت الظلّ الظليل، أنت الكلام القليل والجُرح العليل.. هو الذي حمل على عاتقه تاريخ 5 جانفي2008 ليكون علامة للبلاد والعباد.. كانوا قلّة من المُعتصمين بدار اتحاد الشغل بالرديف، فصاروا شعبا يجري فيسري رافعا شعار الحياة لكلّ من يدري لا يدري.. غرّة ماي 2008 كان للمعطّلين صوتهم ونفسهم مع حسن بن عبد الله وهو ينشُد خبزا وشغلا..

حسن بن عبد الله أو "هفهف"، يهفّ بين الشوارع خفيفا، يهفّ بين الشّباب رفيقا، يهفُّ وجفنه لا يرفُّ، يعرف أنّ الشهيد يُزفُّ، وأنّ الرجال عند المغانم تعفُّ، لا الصورة تُغريه ولا السّجون تُدميه، لكنّ السّاحات والميادين تعرفُه حين تناديه وتُناجيه.. وبسمته صبرُه، "واثقا من خُطاه"، لا يكمّم الأفواه، يسمعْ، فيعي ليُقنعْ، يعرف كيف العاطلين يجمعْ، يحثّ الثّورة نُهوضا ولا يهجعْ، يسمعْ ثمّ يسمعْ، ولصمتنا قد يدفعْ، وصورته بلا مرايا تلمعْ، وكم لعيُون هذه العجوز الوحيدة أن تدمـــعْ فتشْفع..

حسن بن عبد الله من طينة رجال إندثروا، ومن صلب جبال عُمّـدوا.. يعمل في صمت رهيب، هادئ كظلّه، صادقٌ كخلّه، والخوفُ لا يُذلّه، هو الشّعب يُجلُّهُ، لكنّ تقارير المُخبرين لم تُغفله ثانية واحدة، كتبُوا، وكتبوا، ثمّ كتبوا.. ورأوا أنّ السجن لمثله سلامة لأمن الوطن والمواطنين.. يحيا الوطن.. تحيا المحن.. هو الحلقة المفقودة "لعصابة الوفاق" التي تزعّمها عدنان حاجي ورفاقه، والفاهم بوكدّوس مجرم بامتياز، صُوره، حُروفه، مراسلاته.. هو ملعون بلغة الوطنيّة التي يعرفون مقاساتها وموازينها.. رفيقين في سجن بلا مقاس ولا تماس، سجن الرّجال لا يقتلُ الحواس والأنفاس..

حسن بن عبد الله.. تسعة أشهر من السّجن والجوع قبل الخنوع، تسعة أشهر وصمة عار في جبين البلاد والعباد، تسعة أشهر ونحن نحي بلا حياة، أشباه الأموات، وأنت حيٌّ قبلنا وبعدنا، بيننا وبينهم، فوقنا وتحتنا.. هل كنت تحتاج كلّ هذا السجن لنعرف حجمك وشأنك بيننا؟ جحدناك وأنكرناك، ولكنّنا بكلّ الجحود والنكران أحببناك واجتبيناك وحيّيناك..

لن ننساك.. لن ننساك.. فحريّتك كابوس يُرعبُ الأعداء.. ويثقُل كاهل الأصدقاء..

بقلم:عبيد خليفي