الاثنين، 5 أبريل 2010

عبيد خليفي: مـــــاء آســــن

مـــــــــــــــــــــاء آســــــــــــــــن

الوطــن بـركة مـاء آســـن، ودماؤنا تلوّثت بحبر الجرائــد القذرة، بطوننا تسمّمت بالموائد العفنــة.. هل كان عليّ أن أكون ركيكا حتى أصف حالنا.. نحن نسابق لغة تمتـدّ كـوبـاء قاتـل.. يرغموننا أن نرتشف من مائهم الفاسد.. الهواء بالغبار ينثر الموت فوق رؤوسنا وعلينا أن نصبر، والبحر يفتح جحيمه لشباب يحلم أن يغنم.. قطعة خشب تكفي للوصول حيث لا وطن، وربّما أقلّ منها ستكون تابوته المزيّن المحمول على أكتاف الحالمين العابثين الخائبين..
أتذكّر عمرا راح بلا تجريد جارح أو تعذيب صارخ.. تذكّرت وما تخيّلت أن تصبح البلاد رمادا للرجال وحنينا للمستنقعات والبرك الضحلة.. وبكـاء وعويــلا مجنونـا.. خمسون سنة ونحن نندب الحياة بوهج شديد والحصاد يحترق قبل نضوجه، وشبابنا يعلّب قبل بلوغــه.. خمسون سنة لم نغث فيها حتى ندّخــر للسنوات العجــاف.. هيه والبقرات السمان يأكلهن العجاف.. يأكـلن الأخضر واليابس ونحن عجاف خفاف في موازين السفهاء والأغبيـاء..
الّراعي والرعيّة.. والمرعي يكتظ بالأعشاب المسمومة.. خمسون سنة من المواطنة المثيرة للضحك الهستيري.. وأن تكتب عن مرعاك الكثير من الحكايات والخرافات وتتوهّم أنّـك ستحيى أكثر في جنّة الأغبياء والأشقياء.. الوطن هناك يمـتدّ طيفا والإنسان وهم كاذب.. أنت وأنا بلا معنى.. والمعنى لا يمتلكه الذين سكبوا الزيت على الماء، ولكم كذبـــوا علينا.. كم كذبوا حين توهّمنا أن المرعى للرعية وانّ الوطن للجميع والقطيع.. حسبي الله نعم المولى ونعم السّميع..
الفقر هواؤنا اليومي... قالوا لنا الفقر هو قــدر، كدنا نقتنع أنّ الفقـر قدر لكل البشر وعلينا أن نشمّـر سراويلنا وننحت بقايانا من أوساخنا وقاذوراتنا اليوميّة.. الوطن نتن بما رشح عن مجالسه بمداولاته ونقاشاته.. أيّها السّادة أجهدناكم.. أتعبناكم.. أزعجناكم وكدنا نكتم أنفاسنا خوفا على راحتكم وانتم تجتمعون لترسموا خريطة الوطن وتقسّموها بينكم.. لا تغضبوا.. لا تغضبوا من غابت حصته فجسدي يسدّ الحاجة من بقايا العبيد والرعيّة.. لا تغضبوا الوطن للاستئجار فتداولوا على الغنيمة..
خمسون سنة ونحن نكتب ولم نتعب، خمسون سنة ونحن ندخل لنخرج، خمسون سنة من السقوط المدوّي للنخيل.. ليس لدينا جدار نسند عليه ظهورنا التي ألهبتها السياط الفاجـرة ، والحبال الفارطة من مقصلة الإعدام.. ولكم حلمت بالربيع حين امتدّ هذا الخريف منذ الأزل يرسمه شيطان أهوج، من نصّبه علينا وصيّا أبـديّـا ينخر أمعاءنا ويملؤها ترابا ويعمّرنا خـرابــا.. أنــا لا أثق في حــربه للنّـوى وسلـمه للهوى، فكيف وقد جنح قوّادوه نحو أيتامنا يجوّعونهم ويشرّدونهم..
اليتم يشرّدنـا بين الحانــة والزّوايـــا، كــلّ في سكـرته يسبح في هــواه، الوطــن لا يحتاج خـمرة الحـلاّج ولا خمـرة أبي نــواس وبشّـار.. الوطن بلا جسور نحو القادم.. نهيم على وجوهنا بلا أمل والحلم تحوّل كابوسا بين مفترق الطرقات التي توهّمناها بلا عثرات أو سقطـات.. تائهون، ضائعون، شـاردون مشرّدين.. لكنّنـا نكابر عجزنا ونرتمي في أحضان العهـر والقهر وندّعي علم السّابقين واللاحقين..
الحـزب، الحـرب، الحــزن.. ما أقرب المفردات من بعضها وقد تجانس فينا الحزن بالحرب في الحزب، ولكنّنا نبحث عن مفردات تكفي لتوصيف مجاعتنا ورعبنا من شيطان رسمناه بأنفسنا ونّصبنـاه مرشدنا وهادينا إلى الوحشة والغربة والضياع.. خــذ بيدي رفيقي، مذ خمسين سنة وأنا أتحـسّس طريقي في ظلمة المتـــاع والجيــاع، أتحسّس أنفاس المساجين وهم يلفظون ما تبقّى من زهرة العمــر.. وغاب عن التجانس الحـب.. نحن لا نعرف كيف نحبّ ونعشق.. قتلوا فينا الحب بحربهم..
في الرديف، تلك المدينة الملعونة، يحدّثني أبي أنّ الرّاية لها عمرا أطول من أعمار حامليها، وأنّهم حتما راحلون وتاركوها مثلما تركهم أسيادهم قبل خمسين سنة.. وخمسون سنة والـرّايـة ترفرف ولم تطرد ذباب المزابــل والقمامـة، وما حجبت عن أعدائنا عوراتنا، تكشّفنـا.. وما تقشّفنا.. ومـا أذهبت عنّـا حرّ الصيف ولهيبه.. تمضي السنون كالجنــون، والبؤس يوزّع بالطابور في وطني، جـــوع وخضـوع ونحن نجـلد ذواتنا ونبحث عن أخطائنا وكوارثنا..
الشهداء أكــرم منّا جميعا، لم أشعر بمعنى هذه الجملة إلا عندمــا لامست أناملي جثمان الحفناوي مغزاوي، ونحن نحمله على أكتافنا نحو قبره الأخير.. ويلي على نفسي.. ويلي على وطني يشرب من دمي ولا يساويه، في سجني تخيّلتني أحمل بعده عبد الخالق عميدي بعد أن حمل الرصاصة في خصره خمسون يوما.. أنا لا أحتاج ذاكرتي كثيرا لأستعرض قائمة الشهداء.. الجرح اكبر منّي ومنّا، وأشـرف منهم جميعـا.. هــل كنّا نحتاج كــلّ هذا الــدم لنرتوي من جموحنـا وعنفنا الوحشيّ..
المشهد لم يكتمل لكنّه ينذر بالفضيحة.. والــدم بين أرجلنا يسيل قمعا وبطشا وعطشا.. كيف لي أن أحي بينكم حاملا لوائي وحزني.. أنا رجل مهزوم بما أرى في عيون أطفالنا، والحيرة تقتلع البسمة من الصبايا وهنّ يهجرن المرايا.. ما لهذا الجمال من فتنة سوى الوجوم على شباب ينضح بالخمر والميسر والعثرات الفالتة من مصاحفنا وبياناتنا الرّسمية والعرفيّة.. كتابك خــرابك، كتابك عذابك...
خطب الخطيب، كم خطب ونثر الحروف فوق رؤوسنا كالأسبرين.. لكنّ صداعــا استفحل بنـا كالورم الخبيث وهو يضحك من عقولنا ويسخـر من أعذارنا وأوهامنا البائسة.. خطب الخطيب وفي جعبته الكثير من أحلامنا وأوهامنا.. صفّق المهرّجون وضحكوا.. كم ضحكوا من بؤسي ومن حزني ومن جوعي للكلمات الشاردة من معاجم السّفلة وقطّاع الطرق.. كم ضحكوا منّي ومن جهلي..
خمسون سنة.. فشلت مرّة في العدّ وأنا أبحث في وطني عن عود الندّ.. خمسون.. السنة أوسع من أمالهم، والعمر أضيق من تجاربهم، الشيطان يعيش ألف مرّة لكنّ هذا الشعب لا يعرف كيف يعيد الكــرّة.. خمســون.. ونعجتي جــاوزت الخمسون، ضرعها يابس شاحب لا يدرّ لبنا أو خمــرا.. والمرعى يباب.. والسّمــاء كالحـــة لا تنذر بالمطـر.. ولن تمطــر.. لن تمطــر..
البركة ستتعفّن أكـثر فأكثر...
عــبـيـد خـليفي
بـاحث في الفكر العربي الإسلامي
وسجين الحوض ألمنجمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق