الاثنين، 5 أبريل 2010

عبيد خليفي: النازعـــات الغارقـــات

الـنّازعات الغارقات
8 مـارس.. البــرد قارص.. ونحن نستورد النّساء من غرب البلاد ونعرضهنّ للبيع على الساحــل الشرقيّ، تلفظهن معامل الخياطة ومصانع النسيج فيترنّحن على أرصفة الشوارع.. اللّحم الوطني يعرض بكاء وعويلا وهنّ يتوجّعن لذّة وألمـا، أشاهد تلفزتنا الوطنية جـدّا وهي تتغنّى بحقوق المرأة فيزداد عويلي وحنيني..
أرتحل في جغرافيا البـلاد لأبحث عنها حبيبة وفيّة لي ولنفسها.. أرتحل في البلاد.. لا شيء يغريني بمواصلة الرحلة بحثا عنها، أرتحل في نفسي لأبحث عنها رفيقة تحمل المشعل من يدي عندما يحترق ساعدي.. وأتعب.. هل أرثي حالها أم حالنا أنّا جرّحناها لحمـا وعرضناها صورة بلا معنى..
هل سنعتذر لهنّ.. عن ماذا.. عن قرون من العبوديّة المـرّة، توجعكنّ الذكريات.. جواري للأمير وسرايا للوزيــر، وما زلتنّ تحتفلن بشهرزاد حين أرغمت شهريـار أن يحفظ حياتكنّ للأبــد.. اللذة والـذبح خياران مرعبان.. هل كانت حريتكنّ رهينة الحكايــا، أم إشهار زائف يعلّق على جدار يتهدّده السقوط..
مداجـن الجامعات تفرّخ الفــراغ، والفقر يرتــدّ بنا نحو أقدم مهنة في التاريخ، أموالنا لسنا ندري مصادرها ولكننا أيضا نجهل مصائرها، نتبجّح أنّكـنّ نصفنا الآخر، ولكننا نحملكنّ عورة في داخلنا وتحمرّ وجناتنا لعريكنّ واختلاطكنّ.. والخيمة الحجاب تحجب خيوط الشّمس عنك.. الخيمة تغريني بالاختـراق.. وحدها الرياح ستقتلعها..
المرأة في الرديف صنعت مشهد عزّ وأدهشتنا.. كنّا قاصرين حين قصّرناها وعذّبناها سجينة بين جدران خوفنا ودونيتنا، الدّاموس صنع الرجال ودفنهم والفقر جعل نساءنا تدفعنا نحو الجحيم.. اللعنة مشتركة نحن في خندق العذاب اقتسمناه.. خبرناه وجرّبناه.. ما عاد لنا تاريخ نختزنه عندهنّ.. التاسع من أفريل، السابع والعشرون من جويلية، العاشر من ماي.. نساء الرديف يكسرن الطوق يحرقن الصّمت ليوجعننا حضورا صارخا ذابحا أزلام القوّادين الفاسدين.. يوم بيوم.. هنّ دفعنا أياما حين كان لنا يوما..
حتى لا ننسى التاسع من أفريل 2008، الرجال تحت النّعال القذرة، دم يسيل من بين شوارب الرجال، تخرج النسوة.. تبّا لهذا التأنيث في التسمية وفقيه اللغة يقول لي إنّ التذكير في اللغة العربية أصل والتأنيث لاحق.. فهل كانت نساء الرديف لواحق لأشباه الرجال.. نسوة الرديف يخرجن بالتحدّي ليكسرن حصارا مكلوبا وينثرن أجسادهن في ساحة المدينة يفدين الزّوج والابن والأخ والأب.. لا عودة للمنازل حتى يطهّرن المدينة من بقايا المزابل..
السابع والعشرون من جويلية 2008، تعلّمن الكثير من وجع الاقتحامات والمداهمات، والخطف والنهب والاعتقالات، البيوت من دون الرجال خواء وهباء، تعوّدن على الخروج كما تعوّدن على الجروح، في حضرة الكلاب عطرهنّ لا يفوح، تكشّف فيهنّ الوطن المذبوح.. الرجال في السجون، ما تزيّنّ ولا لبسن مصوغا ليخرجن في مسيرة الحريّة، جبن الشوارع والطرقات وحناجرهنّ تطاول السماء وتعصف بالخلاء.. والبدلة الزرقاء تعترضهنّ لتسيل الدموع وتطفئ الشّموع، وما بكين إلا لغيابنا الوحشي.. طاردوهنّ.. أسفي على الرجال يحاربون ضلعنا الأيسر..
العاشر من ماي 2009، كنّا هناك في السجن، كانت جمعة وزعرة وفاطمة وخديجة ونورة... وأخريات أسماؤهنّ من سيماتهنّ والعشق يستفرد النساء بالقمع والعذاب.. ونحن في السجن يهجرنا النوم دون أطيافهنّ.. تسلّلن في العتمة، وسلكن سبلا كنّا رسمناها لهنّ.. وهذا أمــر دبّر بليل.. وانطلق الاعتصام في مشهد كرنفالي يوحي بالتحدّي والعصيان.. صوت مرسال يغدو.. صوت الشيخ يشدو.. وجاءت العصا والنياشين لترهب وترعب.. وكنّتنّّ.. المشهد لا يكتمل إلاّ بثلاث.. فكان الاعتصام ثلاث ليال وثلاثة أيّام..
النساء في الرديف ربيع اليلاد ووردها.. يطردن خيالهنّ من الصالونات والمقاهي ليرسمن الوجد بالفمع والعشق بالطّوق..
وأخريــات برفع التأنيث عنهنّ يكتوين بالجمر والحرمان منذ زمن بعيد.. يدركن أنّ المسيرة ستستمر وتستمر
هناك حيث مصيركنّ تعرفن أنّ العصى الغليظة لن تصمد امامكنّ في وهجكنّ..
عبيد خليفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق